بقلم الأستاذ علي الإدريسي ( المغرب الأقصى)

 حول خلفيات الموقف الجزائري من الثورة على القذافي :

هل يعيد التاريخ مأساته؟

تداولت وكالات الأنباء وقصاصات الأخبار عن مصادر جزائرية أن الحكومة الجزائرية قدمت ما اعتبرته مبررا كافيا لعدم اعترافها في الوقت الحالي بالقيادة الجديدة للشعب الليبي، على الرغم من فتح العاصمة طرابلس.

ومبررها في ذلك، حسب ما تناقلته وكالات الأنباء، هو طلب الجزائر من المجلس الانتقالي الليبي تقديم الاعتذار عما اعتبرته الجزائر اتهاما باطلا لها بمساندة القذافي ضد الثوار، واعتبار ذات المجلس بأنه يضم بين صفوفه "متطرفين إسلاميين" لهم صلة بالقاعدة؛ وهو ما لا تقبل به الحكومة الجزائرية وترفضه رفضا مطلقا، إضافة إلى اتهامهم بتهديد الوحدة الوطنية الليبية، خدمة لأهداف النيتو وفرنسا بصفة خاصة... إلخ.

وكان وزير الداخلية الجزائري قد أعلن في وقت مبكر أن العلاقات الجزائرية اليبية ستكون سيئة على مدى سنوات مقبلة في حالة انتصار "متمردي بنغازي"، حسب تعبيره. كما رفع عبد العزيز بلخادم، الوزير الممثل الشخصي لرئيس الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية مستوى ازدراء الثوار الليبيين حين قال ردا على نقد الثوار للموقف الجزائري من ثورتهم "عليهم أن يتوضئوا قبل أن يتحدثوا عن الجزائر".

ومن المعلوم أن الدبلوماسية الجزائرية ووسائل إعلامها وصفت ولا تزال تصف الثوار الليبيين بأوصاف أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها تحط من شرعية ثورتهم؛ من مثل: المتمردين، وثوار بنغازي، أو "جماعة بنغازي" حسب تعبير الوزير الأول الجزائري، وثوار النيتو، والمعارضين المسلحين، ومدمري ليبيا، ومهددي الاستقرار في شمال إفريقيا، وثوار ساركوزي وقطر. إلى غير ذلك من الأوصاف المهينة لنضال الشعب الليبي الذي عانى ما عانى من ويلات الاضطهاد والاستبداد طيلة أربعة عقود من الزمن على حليف بومدين.

غير أن الصحافة الجزائرية حاولت من جهة أخرى بتقديم خطاب مزدوج؛ فمرة تعبر عن مشاعر الشعب الجزائري نحو نظام القذافي العسكري الدكتاتوري، في الوقت الذي تجندت فيه للدفاع عن موقف السلطات الجزائرية الرسمي، وعن تأييد خططها ضد الثورة في ليبيا، التي تسعى إلى تحقيق حلم الليبيين في الحرية والعدالة والكرامة، أي الحق في المواطنة.

فقد وصل الأمر بهذه الصحافة إلى اعتبار كل من ينادي بضرورة القيام بمبادرة المصالحة مع المجلس الانتقالي الليبي معتوها سياسيا. وهو ما جاء في افتتاحية جريدة الفجر بتاريخ 25 غشت 2011 حين كتب: " يقول المعتوهون سياسيا عندنا: لابد من أن تبادر الجزائر لإصلاح علاقاتها مع المجلس الانتقالي في ليبيا! ولا يقولون: على المجلس الانتقالي أن يبادر بإصلاح علاقاته مع الجزائر! كيف نطلب من دولة أن تبادر بإصلاح حالها مع مشروع دولة وليس العكس؟"

 

الجزائر وشروطها على جيرانها

وكانت جريدة الخبر الجزائرية قد نشرت بتاريخ 23 غشت 2011 ما عدته الحكومة الجزائرية شروطا لها على المجلس الانتقالي، الذي مقره بنغازي، واعتبرت تلك أساسا لتجاوز رزمة الاتهامات التي وجهت للجزائر، حسب تعبيرها؛ وجعلت في مقدم هذه الشروط اعتذار المجلس الانتقالي، كما أسلفنا أعلاه، مع تحديد من المتسبب في تلك الاتهامات والجهات التي تقف وراءها.

قبل أن أن تضيف إلى هذا الشرط ما تعتبره حكومة الجزائر خريطة طريق يوصلها إلى التطبيع مع الثورة الليبية؛ وتضمن هذه الخريطة الشروط التالية:

1 مشروع المجلس الانتقالي على الصعيد السياسي الداخلي،

2 علاقة بعض الدول الغربية بأي تحول للسلطة في ليبيا،

3 مشروع المجلس تجاه القضايا الأمنية والتزامات ليبيا في مجال مكافحة الإرهاب،

4 كيفية التعاطي مع ''جهاديين'' مفترضين في ليبيا يمثلون ذراعا لتنظيم ''القاعدة''،

5 مسائل الحدود البرية،

6 التعاون الأمني،

7 قضايا الساحل،

8 قضايا الطوارق.

هذه هي شروط الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، التي تزعم أنها لا تتدخل في الشؤون الداخلية للغير، لتطبيع العلاقات مع الثورة الليبية التي يحاول شعبها التخلص من دكتاتورية القذافي الذي اعتبر شعبه مجرد جرذان ومقملين. فهل هذه هي كل "الفلسفة السياسية" لأصحاب القرار في الجزائر، أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟

إن الناظر في هذه الشروط يجدها لا تختلف كثيرا عن الشروط التي طلبها ويطلبها المسؤولون الجزائريون كي يتم تطبيع العلاقات مع المغرب، بعيدا عن زخرف برقيات التهاني المناسباتية . وفي مقدمة هذه الشروط قيام المغرب بتقديم الاعتذار لها عن اتهامها في أحداث فندق أسني بمراكش صيف 1994، على الرغم من تصريحات كريم مولاي، ضابط المخابرات الجزائرية، الهارب إلى بريطانيا، التي يؤكد فيها ضلوع الأجهزة الجزائرية في تلك الأحداث الإجرامية. ومن الشروط الأخرى التي ينبغي على المغرب القيام بها، الالتزام بمحاربة الإرهاب، وفقا لرؤية السلطات الجزائرية لتلك الحرب وتحت إمرتها، وقيام المغرب بتشديد الحراسة على الحدود الغربية للجزائر لحماية حدودها من تسرب ما تسميه "السلاح والسلع المهربة والإرهابيين". هي شروط لا تختلف في جوهرها عما تشترطه إسرائيل من حكومات رام الله، والأردن، ومصر أيام الريس المخلوع.

 

السياسة الخارجية الجزائرية وعقدة قيادة المنطقة

لم يعد المغرب وحده، إذن، المدعو إلى قبول شروط السلطات الجزائرية الفوقية، إن هو أراد الوصول إلى مستوى تطبيع العلاقات مع الجار الشرقي، بعد أن ضمت حكومة الجزائر ليبيا إلى تلك الشروط. وبعيدا عما تسربه الدوائر والأجهزة الجزائرية إلى صحافتها حول سياستها الخارجية بأنها سياسة محايدة نحو جيرانها، وهي لغة أثبتت مواقفها من الوحدة الترابية للمغرب بطلانها منذ زمان، كما أثبتت ثورة الشعب الليبي أن مفهومي الحياد وحق الشعوب في تقرير مصيرها يخضعان لمزاج النظام الجزائري، ولمنطق عصر الحرب الباردة، الذي لا يزال مهيمنا على الدبلوماسية الجزائرية في علاقاتها مع جيرانها إلى حد بعيد.

وبغض النظر عما تجتره تلك الصحافة من كون "معارضي بنغازي" و"ثوار النيتو"، كما تسميهم، يجرون بلدهم إلى وضع يشبه وضع المغرب الخاضع للحماية الفرنسية والأمريكية، حسب لغوها المجتر منذ عقود، وبغض النظر أيضا من الادعاء بأن أصحاب القرار في الجزائر "على رأي واحد بالنسبة لسياستهم نحو المغرب"، طبقا لتصريح وزير الخارجية الأسبق أحمد طالب الإبراهيمي، فإن وزيرا جزائريا سابقا للإعلام خرج ليعلن أن ''موقف الجزائر من ليبيا أفقد إجماع الجزائريين حول السياسة الخارجية'' (الخبر الجزائرية، 28 ـ 8 ـ 2011).

ومن هنا يتساءل المراقبون عن مآل السياسة الجزائرية الجهوية بعد الثورة الليبية، خاصة بعد فقدان أحد الممولين الرئيسيين للبوليساريو، هل ستكون امتدادا لسياستها المغربية بخلق بؤر للتوتر في مناطق معينة على الأراضي الليبية المحاذية للجزائر، والتي تكون فيها النوازع القبلية أقوى من اللحمة الوطنية، كما هو الشأن عند البوليساريو؟ أم أنها ستكون مجرد تكتيك قصد الحصول من الحكام الجدد لليبيا على ما لم تستطع الحصول عنه من القذافي في مسألة الحدود، والتوارق، والساحل، إضافة إلى الضغط من أجل الاستمرار في دعم جمهورية البوليساريو، وإلى أي حد ستتأثر دوافع ومحركات واختيارات أصحاب القرار في الجزائر على رسم سياساتهم نحو جيرانهم، خاصة بعد اندحار جنرال تونس، وعقيد ليبيا، وجنرال (فريق) مصر، والقائمة لا تزال مرشحة للمزيد؟

إنه تحول يصعب على المؤسسة العسكرية الجزائية أن تستوعب آثاره وانعكاساته على وضعها، وتتجاوب مع تطلعات الشعب الجزائري بسهولة تقل عن غرور الجنرالات المتهاوية أنظمتها. لكن كمحاولة لفهم محددات السياسة الجزائرية المغاربية يمكن العودة والتعرج إلى التذكير بأهم أسسها التي حكمت علاقاتها بجيرانها منذ استقلالها.

فقد قامت تلك الأسس على الاعتقاد بأن للجزائر فضلا على استقلال أقطار شمال إفريقيا، خاصة تونس والمغرب وموريتانيا، حسب ما هو مثبت في مواثيق الدولة الجزائرية؛ هذه المواثيق التي تشير أيضا إلى عدم السماح بحدوث أي شيء في المنطقة دون علمها وموافقتها. وهذا ما يستخلص من ميثاق طرابلس سنة 1962، أو ميثاق الجزائر سنة 1964، أو الميثاق الوطني سنة 1976 ونسخته المعدلة سنة 1986.

وتطبيقا لهذه المكانة القيادية المزعومة للمنطقة أعلن أحمد بن بلة، وهو يضع أولى خطواته خارج السجن الفرنسي سنة 1962، أن الجزائر ستقود قيام وحدة المغرب العربي طوعا أو كرها، ولن تسمح لأي دولة أو جهة الوقوف ضد هذا المشروع. وخلفت هذه التصريحات توجسا لدى الجيران أدى إلى أول خلخلة في علاقات شركاء الأمس في الحركات الوطنية المغاربية، بدءا بتونس، التي كان الشغل الشاغل لزعمائها تكوين الأمة التونسية والدولة الأمة قبل الحديث عن أي شيء آخر. ثم اندلعت الخلافات مع المغرب نجم عنها حرب الرمال سنة 1963، التي سممت الجوار المغربي الجزائري منذئذ إلى اليوم.

أما بومدين فقد تلفن إلى بورقيبة عقب توقيعه معاهدة الوحدة التونسية الليبية مع العقيد القذافي في يناير 1974 دون أخذ رأيه وموافقته ليهدده بعبارة موجزة "لا تنس أن الحدود الجزائرية التونسية لم يتم ترسيمها بعد" وفقا لما أورده وزير داخلية تونس إذاك الطاهر بلخوجة في مؤلفه عن سيرة بورقيبة، الذي أكد فيه أن المسؤولين الجزائريين أبلغوه أنهم لن يقبلوا بأي تغييرات سياسية في المنطقة دون علمهم وموافقتهم.

وصادف أن بورقيبة تراجع لاحقا عن مشروع تلك الوحدة لأسباب كثيرة يتعذر علينا الخوض فيها في هذا المقال لأسباب منهجية. لكن بومدين شعر بزهو الانتصار اعتقادا منه أن تهديده هو من أفشل مشروع الوحدة الذي جرى وراء ظهر نظامه؛ مما جعله يكرر الأمر نفسه مع المغرب وموريتانيا سنة 1975 بعد اتفاقهما على تحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب دون إشراكه في الاتفاق. وكون الحسن الثاني وولد دادة لم يتخليا عن مشروعهما، ولم يشركا الحكومة الجزائرية فيما يعتزمان القيام به في الوقت نفسه، واعتبر المغرب أن الجزائر لا مانع لديها لاستكمال وحدته الترابية في الجنوب اعتمادا على تصريح بومدين في مؤتمر القمة العربية بالرباط أواخر سنة 1974 بأن الجزائر تبارك مشروع استرداد المناطق الصحراوية بعبارة "الله يبارك"، قام الجيش الجزائري بالهجوم على الجيش المغربي بأمقالا، ثم تلا ذلك معركة أمقالا الثانية، فتعفنت منذئذ مسالك علاقات البلدين تاركة آثارها النتنة على الشعبين إلى اليوم، متنكرة لكل الجوانب الإنسانية وأواصر الجوار الذي فرضته الجغرافيا قبل التاريخ، أو لغة البرقيات المناسباتية التي لا يمكن تصنيفها إلا في الوعي الشقي أو العبث الميتاواقعي.

على كل حال فمنذ مواجهات أمقالا الأولى والثانية، وجزئياتهما التي يتقدمها شعار بومدين المعروف "الجزائر عنوان سياسي كبير" لم تعرف العلاقات المغربية الجزائرية غير سراب الصحراء وزوابعها التي حالت، ولا تزال تحول، دون بناء رؤية واضحة إلى أفق تلك العلاقات، التي تحولت إلى مجرد كثبان رملية متحركة تتلف معالم الاستقرار وملامح التطور والازدهار للمنطقة كلها.

حاول الشاذلي بن جديد تعديل هذه الأيديولوجية الجزائرية بإعادة اللحمة إلى علاقات بلده مع جيرانه فعاقب أولئك الذين خططوا مع عقيد ليبيا للهجوم على مدينة قفصة التونسية سنة 1981 في محاولة لزعزعة نظام بورقيبة، وحاول كذلك التقرب إلى جاره الغربي فاجتمع بالحسن الثاني عند الحدود المشتركة، قبل أن يتبادلا الزيارات الرسمية بينهما المتوجة بمعاهدة مراكش في فبراير 1989 لقيام اتحاد المغرب العربي، الذي حنط منذ 1994 بتجدد التوتر بين البلدين ومبادرة الجزائر إلى غلق حدودها البرية مع المغرب.

لكن يبدو أن الشاذلي كان يغرد خارج السرب. فقد أوضحت مذكرات الجنرال خالد نزّار، الذي قاد الانقلاب على الشاذلي في 11 يناير 1992 أن مؤسسة الجيش التي قال بشأنها المؤرخ الجزائري: "كل دولة في العالم تملك جيشا، إلا في الجزائر فالجيش هو الذي يملك دولة"؛ هذه المؤسسة لم تكن راضية عن سياسته المهادنة للمغرب، وفقا لمذكرات هذا الجنرال. وكون أن الشاذلي ابن مؤسسة الجيش فإن مصيره كان أفضل من مصير محمد بوضياف، الذي جيء به من منفاه في المغرب، عقب إزاحة الشاذلي عن السلطة لملء فراغ منصب رئيس الجمهورية، فاغتيل بطريقة هوليودية بعد ستة أشهر فقط من الاستنجاد به؛ لأنه تجرأ بإعلان رغبته في حل النزاع حول الصحراء المغربية وتطبيع العلاقة مع المغرب.

ونعتقد أن جانبا هاما من موقف السلطات الجزائرية من الثورة الليبية يندرج ضمن الإطار والدور الذي رسمتهما السلطات الجزائرية لنفسها في زعامة كل التحولات الممكنة في شمال إفريقيا. والمتتبع للصحافة الجزائرية لا يصعب عليه أن يستخلص من كتاباتها وتعاليقها والمناحي التي تورد فيه أخبار الثورة الليبية بأنها ليست ضد الثورة على القذافي، بقدر ما هي غاضبة على الليبيين لكونهم لم يتشاوروا ولم ينسقوا مع السلطات الجزائرية منذ البداية، بدل الاستعانة بالحلف الأطلسي، وخاصة فرنسا. ولم تسْلم موريتانيا من عقدة قيادة الجزائر الخاصة بقيادة المنطقة. فقد نشر ويكيليكس وثيقة، تعود للسفارة الأمريكية في نواكشوط، بتاريخ 27 ديسمبر 2009، أعربت فيها وزيرة الخارجية الموريتانية الناها بنت مكناس، عن استيائها من مواقف حكومة الجزائر، باعتبارها عائقا في وجه التعاون الإقليمي مع دول منطقة الساحل، لمواجهة تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، باشتراطها إقصاء بعض دول المنطقة، في إشارة إلى المغرب، وعدم التعاون مع الشركاء الخارجيين، وأنها، أي الجزائر، هي مفتاح الحل. وهكذا يظهر أن أصحاب القرار في الجزائر ما زالوا يتعاملون في علاقاتهم المغاربية بمنطق الحرب الباردة البائدة، وبروع الزعامة المفقودة، في الوقت الذي تقوم فيه العلاقات بين الدول على المنطق البرجماتي، أي الاعتماد المتبادل والمصالح والمنافع المشتركة.

 

التحجج بالإرهاب الإسلامي لإدامة الجيش في الحكم

iأما دعوى المسؤولين الجزائريين بأن بين صفوف الثوار إسلاميين قد يشكلون دعما للإسلاميين الجزائريين، فيبدو أن هؤلاء المسؤولين لم يقرؤوا جيدا المتغيرات الدولية لمرحلة ما بعد مقتل ابن لادن، ولم يرق فهمم إلى مستوى الأمريكيين والغربيين بصفة عامة لعملية انطلاق المحتجين والمتظاهرين في الدول العربية من المساجد مهللين مكبرين لتحدى الأنظمة الاستبدادية، بعد أن فقدوا الأمل في كل الشعارات القومية والعروبية التي لم تنتج سوى المستبدين والدكتاتوريين، كما أن هؤلاء المسؤولين لم يستوعبوا أن بإمكان أي إنسان أن يعيد النظر في قناعاته الظرفية، حتى ولو كان قد اختار ذات لحظة الانتماء إلى أشد التيارات الإسلامية تطرفا. فسنة التطور وفضيلة الاجتهاد تسمحان للإنسان أن يتخطى "من‭ ‬فكر‭ ‬التكفير‭ ‬والتفجير‭ ‬إلى‭ ‬فقه‭ ‬التفكير‭ ‬والتغيير"، على حد تعبير المفكر الجزائري عبد الرزاق قسوم.

ثم ألم تكن الأصولية المسيحية ذات يوم أشد تطرفا وشراسة وقسوة من الأصوليات الإسلامية الموصفة اليوم بالإرهابية، دون أن يمنع ذلك الأمريكيون الجنوبيون أن يحتموا هم أيضا بالدين في القرن العشرين لمقاومة الدكتاتورية في دولهم، فيما عرف باللاهوت الثوري، الذي ساهم بقدر كبير في تحقيق شعوب أمريكا الجنوبية للديمقراطية؟ أوليس مطلب الديمقراطية هو مطلب كل المشاركين في الثورات الشبابية للشعوب العربية بإسلامييهم وعلمانييهم وليبرالييهم؟ أوليس هذه الأنظمة الدكتاتورية العسكرية المتهاوية تبجحت بدون حدود بأنها علمانية، إلى درجة منع النساء والطالبات ارتداء الحجاب؟

إن الاستمرار في اتهام كل من ينتمي إلى المرجعية الإسلامية بالإرهاب يدل على الأقل على تخلف صاحبه عن زمانه، فضلا عن المتغيرات الحادثة في العالم بعد مقتل ابن لادن، خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تماما كما كانت هنالك متغيرات بعد تفجيرات نيويورك على نفس المنطقة، تم على إثرها استخلاص كثير من الدروس والخطط لمواجهة احتمالات المستقبل بتكاليف أقل؛ غير أن ممارسة السلطة والاستبداد من قبل الجنرالات لا تعمي البصر ولكنها تعمي البصيرة.

أشرت في مقال سابق إلى أن أهم إنجاز لثورات الشباب العربي على المستوى الخارجي هو إبطال فزاعة الإسلام التي وظفها المستبدون لإخافة الغرب وضمان استمرار حمايته لهم من شعوبهم في الوقت نفسه، ولم يعلموا أن حكام الدول النافذة في العالم ليس من مصلحتهم أن يقودوا العالم كما قاد العقيد والجنرالات شعوبهم؛ لأن لديهم مراكز دراسات وأبحاث تقرأ الواقع وتتوقع الأحداث، ويتواصلون مع مفكرين ومستشارين ومحللين يطلعونهم على احتمالات تقلبات أجواء الشعوب واتجاه رياحها، قصد اتخاذ القرارات المناسبة، وفقا لسنة التطور وقوانين التغير.

ألم تذكر وزيرة خارجية أمريكا السابقة أن مبارك استهزأ بها حين قالت له سنة 2005: "إن لم تحقق الحد الأدنى من الديمقراطية فإن الأوضاع ستنفجر ضدك." فما كان منه إلا أن سفه رأيها كون الأمريكيين لا دراية لهم بطبيعة العرب وثقافتهم، مفندا رأيها بكون العرب لا يستقيمون إلا بالقبضة الحديدية! , وأنه لا يريد تسليم البلد للإسلاميين.

مما لا شك فيه أن اجترار المستبدين لفزاعة خطر كل من يتخذ من الإسلام مرجعا له يدل قبل كل شيء على عاهة عمى الألوان الثقافي والسياسي عند أولئك المستبدين الساديين الذين لا تظهر بطولاتهم إلا في القمع والتنكيل بشعوبهم.

ومن المتوقع، إذن، أن يبقى فهم هؤلاء المستبدين مجانبا لحركة التاريخ، مهما يقدم لهم من معطيات تتعلق باستحالة استمرار القمع والتنكيل بشعوبهم إلى ما لا نهاية، ونصائح بضرورة إحداث إصلاحات وقائية قبل انفجار الأوضاع، لكن الشعوب طال انتظارها عسى ولعل أن يتمنطق رؤساؤها بالحكمة التي هي ضالة الإنسان العاقل في كل زمان ومكان. غير أن أولئك الرؤساء المستبدين أبانوا أنهم غير مستعدين لسماع آهات شعوبهم، فهم قد انحازوا أبدا إلى جهة المغرورين بقوتهم الغاشمة على شعوبهم. في الوقت الذي أصبح فيه العالم مقتنعا بالتدريج أن جل الحركات الإسلامية أصبحت جزء من ثورة التغيير نحو تحقيق الحرية والعدالة والكرامة،(أي تحقيق الديمقراطية) بعد تخليها عن فتاوى الهجرة والتكفير وشرعية القتل والتفجير. ولعل التوافق السياسي البارز الذي بدأ يسود خطاب شباب الثورات العربية بكل توجهاتهم العلمانية والليبرالية والإسلامية، ودورهم مجتمعين متآزرين في زحفهم لقلع جذور دكتاتورية الأنظمة العسكرية وبقايا الاستبداد هو ما يؤِرق نظام الحكم في الجزائر، على الرغم من محاولة تخفيه وراء محاربة الإرهاب الإسلامي.

 

الحكومة الجزائرية ومسألة حق تقرير مصير الشعوب

ومن جهة أخرى فإن إحدى القضايا التي تكشف مأزق الدبلوماسية الجزائرية بالنسبة للثورة الليبية تتمثل في موقفها من مسألة حق تقرير الشعوب لمصيرها، الذي طالما تغنت به لمناهضة استكمال المغرب وحدته الترابية، فهل يكفي نعت ثوار الشعب الليبي بـ"ثوار النيتو" كي تسحب منهم حقهم في تقرير شعبهم لمصيره السياسي؟

يتم طرح هذا السؤال بقوة بين مختلف الأوساط الجزائرية، قبل غيرها، وإمكان انعكاسه على موقف النظام الجزائري من قضية الأقاليم الصحراوية المسترجعة إلى وطنها. ويبدو أن احتمال انعكاس مخلفات هذا السؤال قد وصل إلى أعلى قمة في النظام الجزائري؛ مما جعل بوتفليقة يخرج عن صمته ليعلن "أن الجزائر طرف فاعل في التحولات الجارية التي تشهدها المجموعة الدولية بما فيها الأمة العربية"، قبل أن يضيف: " أن كل شعب سيد في صنع تجربته الوطنية الخاصة." (تصريح بوتفليقة في 28 ـ 8 ـ 11). وبعد أيام قليلة من تصريح بوتفليقة صرح وزير خارجيته لراديو أوروبا 1 " أن الجزائر ستعترف بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي عندما يشكل حكومة شرط مراعاة الحساسيات المختلفة في ليبيا". وتزامنا مع هذين التصريحين راحت الصحافة الجزائرية تشير إلى ما يقصده بوتفليقة بصنع كل شعب تجربته الوطنية وإلى بعض ما يعتبره وزير خارجيته شروطا لمرعاة الحساسيات المختلفة. فقد أشارت جريدة الخبر أون لاين الجزائرية بتاريخ 1 شتنبر 2011 بوجود خطر حقيقي يتهدد 200000 طارقي ليبي من قبل "ثوار بنغازي"، بدعوى مساندتهم للقذافي والحرب إلى جانب كتائبه. لكن سرعان ما تم سحب هذا المقال من على صفحات الخبر أون لاين، لأسباب لم يعلن عنها. ليعوض في اليوم التالي بأن ليبيا تضم أزيد من 500 ألف تارقي موزعين على مدن غدامس وغات أوباروسبها، وفي عدد 5 شتنبر أوردت نفس الجريد "حوارا" مع من وصفته بممثل "تنسيقية توارق ليبيا ''إسحاق أغ حسيني'' تحت عنوان ''نتعرض لتصفيات يومية ونطلب من الجزائر حمايتنا وفتح الحدود'' نسبت إليه القول: "إن وضعية توارق ليبيا تتدهور يوما بعد يوم بسبب العنف الممارس ضدهم من طرف مقاتلي المعارضة الليبية، مجددا مطلبه للسلطات الجزائرية بفتح الحدود أمام التوارق المتواجدين في الدبداب". وترفع الجريدة عدد توارق ليبيا إلى 600 الف. تماما كما كانت صحافة الحزب الواحد يومذاك من شتاء 1975 و 1976 ترفع عدد الصحراويين المزعوم التجائهم إلى الجزائر بالتدريج إلى أكثر من مليون نسمة. وكتبت جريدة الشروق أون لاين بتاريخ 6 ـ 9 ـ 11 إلى أن فرار التوارق الليبيين إلى الجزائر نجم عن "التصفيات العرقية التي شهدتها شوارع ومدن غدامس يومي العيد"، فهل نحن بصدد أن يعيد التاريخ إحدى مأساته مجددا في منطقة شمال إفريقيا؟ وهل من حقنا أن نتضرع إلى الحكمة كي لا نتعرض مرة أخرى لرياح السيروكو وتضيع ملامح هذا المغرب الكبير في الكثبان الرملية مجددا؟

وفي سياق التطورات المخيفة في الحدود الليبية الجزائرية نشرت جريدة "النهار" الجزائرية أون لاين بتاريخ 1 غشت أن عدد اللاجئين الليبيين إلى الأراضي الجزائرية منذ منتصف فيفري المنصرم بلغ 28635. ثم أضافت أن الحكومة الجزائرية سمحت باستقبال 633 تارڤي من توارڤ ليبيا، في الفترة الممتدة من 28 غشت إلى صباح 1 شتنبر2011، حيث فتحت لهم الحدود استثناء، على الرغم من إعلان الجيش الجزائري من غلقها مع ليبيا. وتروج مصادر رسمية أن الترقيين الليبيين يعيشون في وضعية كارثية على يد الثوار الليبيين.

مما لاشك فيه أن قراءة هذه "الأخبار" المتداولة في الصحافة الجزائرية، بصيغ متعددة في مظهرها ولكنها واحدة في مضمونها، وأرقام سكان التوارق واللاجئين الذين "احتموا" بالجزائر، سيعيد إلى الأذهان سيناريو احتضان النظام الجزائري لجماعة البوليساريوا، ذات تاريخ من الربع الأخير من القرن العشرين، يوم قدمها القذافي هدية له مكتملة الإعداد والتمويل، بدعوى الوقوف إلى جانب حق الشعوب في تقرير مصيرها، فهل سيتكرر هذا السيناريو مع ليبيا الجديدة، ولو بصيغ مختلفة، وهل سنسمع قريبا دعم الجزائر لحق تقرير مصير الشعب التارقي في صحراء ليبيا؟ وهل سيبقى الشعب الجزائري مكتوف الأيدي مرة أخرى أمام المسلك الجديد لدولتهم نحو أحد جاريها في الشرق هذه المرة؟

لا ننكر أن يومها وقف ثلة من الجزائريين ضد قرار النظام الجزائري نحو جارهم الغربي، منهم رئسي الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية، إبان حرب التحرير: فرحات عباس وبن يوسف بن خدة، وحسين لحول أحد القادة التاريخيين للحركة الوطنية الجزائرية، والشيخ محمد خير الدين، القيادي البارز في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين. لكن بومدين زج بهم في السجن بدعوى مناهضتهم المصالح العليا للجزائر، التي كانت لغة يومذاك تعبر عنها بـ"معاداة الثورة"، ونتيجة لذلك، ولطريقة التحكم في الإعلام إذاك. إضافة إلى دور اليسار المغربي المتطرف في تأييد البوليساريو انتقاما من سياسة اضطهاد الحسن الثاني لهم، لم يتحرك الشارع الجزائري تجاوبا مع معارضي سياسة بلدهم نحو المغرب، خاصة أن الشعور الذي كان يسود يومذاك عموم الجزائريين هو أن لبلدهم "الثوري" الحق في قيادة المنطقة المغاربية وزعامة إفريقيا. فهل يعيد النظام الجزائري إنتاج نفس السيناريو مع ليبيا الثورة على الرغم من تغير الظرفية التاريخية والسياسية والإعلامية في زمن التحولات العالمية تغيرا جذريا عن سبعينيات القرن الماضي؟ أعتقد بأن قراءة الحكمة التي تفيد "أن من لم يقرأ تاريخه قراءة واعية سيعيشه مرة أخرى، لكن بطريقة أسوأ" سيكون أمرا إيجابيا.

 

الموقف الجزائري والتعلل بتبعية الثوار الليبيين لفرنسا وللنيتو

هنالك مسألة أخرى تتعلل بها الدبلوماسية الجزائرية من خلال صحافتها هي أن الثوار الليبيين هم مجر عملاء لساركوزي وحلف النيتو، إلى درجة أن هذه الصحافة لم تتورع في أن تصف الثوار بصفات تنتقص من انتمائهم إلى وطنهم ليبيا، منها: صفة "ثوار النيتو" و"ثوار ساركوزي". إضافة إلى اتهامهم بالانتماء إلى القاعدة، تعاطفا مع لغة القذافي وابن علي وحسني مبارك وبشار الأسد، وغيرهم ممن يوظفون الانتماء الإسلامي فزاعة للغرب. ففي مسألة استنكار الدعم الفرنسي للثورة الليبية. ربما يكون استغراب النظام الجزائري لذلك يقوم على توجس من احتمال تخلي فرنسا عن دعم مؤسسة الجيش الجزائري في حالة قيام امتداد الربيع العربي إلى الجزائر. ففرسا دعمت سابقا، وبكل قوة وبجميع الوسائل، الانقلاب على الشاذلي سنة 1992، وعلى المسار الديمقراطي الذي فازت به الجبهة الإسلامية للإنقاذ. ثم وقفت بالأمس القريب إلى جانب ابن علي ضد ثورة الشباب في تونس. أما ما يقال عن عودة فرنسا إلى شمال إفريقيا، فكلام لا يصدقه حتى الذين يروجونه، لأنها لم تخرج عمليا حتى تعود، كما يقول كثير من الجزائريين: معارضة وموالاة. ويستدلون بأمور واقعية بعيدة عن شعارات استغفال بسطاء الشعب وأصحاب العواطف الوطنية الانفعالية. فالمبادلات الجزائرية مع الخارج تتمركز مع فرنسا، حيث تصل إلى 40 في المائة من جملة تلك المبادلات. وتبقى المؤسسات المالية الفرنسية هي الضامنة للمؤسسات الجزائرية منذ عهد الاشتراكية إلى الآن. كما تبقى باريس القبلة المفضلة للنخب الجزائرية النافذة سياسيا واقتصاديا وثقافيا. وفرنسا تحتكر إيراد القمح للجزائر، بعد أن احتكرت ذات اليوم الاستعماري تصدير القمح الجزائري إلى فرنسا والعالم! إضافة إلى كون الجزائر تعد من أكبر البلدان الإفريقية استوطانا للشركات الفرنسية، حيث يبلغ تعدادها إلى حوالي 450 شركة. والمجال الوحيد الذي تتفوق فيه أمريكا على فرنسا في الجزائر هو مجال المحروقات، حيث يمتلك الأمريكيون 8 شركات كبرى من جملة 12 شركة، نتيجة ظروف التأميم التي تمت على يد مكتب محاماة الرئيس الأمريكي الأسبق نيكسون.

والسؤال الذي يطرح نفسه إذا كان كل ما يربط حكومة الجزائر بفرنسا ليس تبعية مفروضة على شعب طالما افتخر أبناؤه بتقديم أغلى ثمن لاستقلالهم عنها، فماذا تكون التبعية إذن؟؟؟

وفي ختام هذا المقال نتمنى أن يكون صبح العلاقات المغاربية قريبا، بفضل الرؤية السياسية المقاصدية للفاعلين السياسيين الحقيقيين، وللأحزاب السياسية وليس الأحزاب الحزبية، والحركات الشبابية الجديدة، وهيئات المجتمع المدني، في بلدان شمال إفريقيا، المتجاوبة مع رياح التغيير التي انبثقت عن غضبة برومثيوس تونس محمد البوعزيزي لتعصف بأنظمة الظلم والاستبداد؛ إذ لا يصح إلا الصحيح، لأن الزبد يذهب جفاء.