بقلم محمد الناصر النفزاوي

 في من أحبّ من التونسيين و التونسيّات وفي من لا أحبّ
أو
حتّى لا تحتاج تونس الى انتفاضة جديدة على الزخاليط .
 

هذه القراءة تتناول حقيقة لمستها بأصابع رجليّ في تونس ما بعد 14 جانفي ويمكن تعميمها ، إن كثيرا أو قليلا، على كل بلاد المغرب وهي  حقيقة ضعف الحسّ الوطني الميتا/بيولوجي  غيرا لعروشي والجهوي عند أغلبية التونسيات والتونسيين على صغر مساحة البلاد فلقد حدث أن التقطت   أذنيّ ، هوائيا، أثناء  واحد من اعتصامات القصبة  كلام واحد من المعتصمين يشترط ، لفك الاعتصام ،تمكين القوم من "شهادة في الاعتصام".

 وحدث أن رأيت عددا غير قليل من المهاجرين التونسيين في فرنسا يطلب من مسؤولي شركة الطيران الذين تجنّدوا لدعوة المهاجرين الى "إنقاذ"البلاد سياحيا  يطلب تمكين القوم من حمولة زائدة.

وحدث أن رأيت "خزان زنابير المحامين والقضاة" الذين كانوا، في أغلبيتهم الساحقة، "سوسا لا يقع إلا على صوف اليتامى"، ينفجر على هيئة تقاتل بـ "السلاح الأبيض" الممنوع، نظريا على غير الجزارين وعلى أساس يتنزّل فيه "الفلس"وأخواته منزلة غير وضيعة.

ورأيت البلاد في كل مكان تعجز عن تلبية رغبة السوق في مواد البناء لأنه يبدو أن الكثيرين كانوا زمن الزائدة الدودية يخزّنون أموالهم لا في البنوك غير الآمنة ولكن في الحيطان.

إنهم "ذوو الشكارة" على حد تعبير الجزائريين الشائع.

وأنا أتحدّث هنا عن آلاف المليارات لا عن مئاتها.

أما ما رأيت من الوجوه المقيتة اللئيمة التي سبق أن عرفت  والوجوه الجديدة التي لم أعرف وفي كلّ ميدان بدءا بالسياسة مرورا بالتعليم وصولا الى الإعلام فملخصه أن الجميع  أصبح اليوم  لا   ينشد ويرتّل سوى أغنيتي "أحبّك يا شعب" و"أحبك يا تونس".

إنها عودة أجواء البخور والسطلة والسبسي أي عودة الزخاليط.

أكاد أحس أنني واحد من هؤلاء التونسيين والتونسيات القلائل، مقارنة بالأغلبية، الذين لا يحبّون لا تونس التي يرون ولا الشعب التونسي الذي يختبرون كل يوم وليس يمكنهم أن يحبّوهما في يوم من الأيام لأنهما حرفا قصيدة الشابي

إذا الشعب يومــــا أراد الحياة

فالشابي  ،إن كنت فهمته  جيّدا ، لم يكن يقصد بـ" الحياة " ما  وصفت من  تسطّح  وطني  كما أنه لم يكن يوجه خطابه الى أمثال من ذكرت من الزخاليط ،رجالا ونساء.

 كان يكلم عبر الزمن القادرين من النساء والرجال على الموت الرجولي أي الأخلاقي الذي يضمن بقاء الأمم.

كان يكلم هؤلاء النسوة اللائي زخر بهن تاريخ بلاد المغرب والمشرق وبلاد أخرى ممن تبّرعن أزمنة بداية الاستقلال، من دون أن يكنّ من أسر موسرة، بما كان يزين أذنا أو جيدا، غير منتظرات جزاء ولا شكورا.

في القضايا الكبيرة " تصغر في عين العظيم العظائم"

كنّ الصورة النقيضة لوسيلة بن عمار /بورقيبة وسعيدة ساسي وسيدة العقربي مع احترامي للعقارب والزواحف التي لا تؤذي إلا من يسعى الى إيذائها.

كنّ شبيهات بهؤلاء التونسيين والتونسيات الذين يجتهدون اليوم في تتبع المفسدين والمفسدات في الأرض التونسية قبل كل شيء فهذا هو الجامع الأصلي الحقيقي بينهم وما تبقى من قبيل الحواشي.

هذا الجامع هو جامع نبيل بكل المعاني لأنه يقتضي التصدي لكل ما هو وصوليّة   أفقية قد تتّخذ شكل  المحسوبية  أو حتى شكل ... السرير والفراش .وما أدراك ما الفراش !

إن هذا الجنس  من التونسيات والتونسيين الذي أحب هو الذي يمكنه ، هو وحده،أن يتصدى لمحاولة إعادة البلاد  الى عالم الرقص القردي على وقع أغنيّات الجواري التونسيات من ذوات السمعة السياسية السيئة وأغنيات الممضين على «وثيقة مناشدة الزائدة الدودية حكم تونس حتى زوالها".

ولكن هل يمكن ، من ناحية ثانية، أن  نردّ وضع الوعي المتدني عند من وصفت من أغلبية التونسييين الى سبب "غزاليّ" على غرار  هذا الذي  جرّم ابن رشد المسلم العلماني لأنه فسر  اندثار قوم عاد بـ"الهلاك" لا بـ"الإهلاك" أي هل يمكن أن ننسى ما قلنا قبل قليل من وفرة وعي التونسي والتونسية بدايات الاستقلال ومساهمتهما الحاسمة في عملية البناء الوطني؟

 أي هل يمكن أن نكتفي بوصف الظاهرة من دن أن نتعرض لأسبابها ؟ عندما بدأت أتساءل  ، والويل للمتسائلين "الوجوديين" مثلي  في  بلد أدمنته وليس يمكنني، تربة ومطرا وحبّا، أن  أتبرأ منه ، عمّا سمّيته في بداية هذه القراءات بفداحة ضمور الحس الوطني العالي العليّ لم أجد ما يشفي غليلي في غير ما اكتشفت من هذا الميل العميق عند التونسيين الى النفور من كل ما يمثّل قضيّة أو مسألة أو إشكالية فالقوم لا أكاد أستثني منهم أحدا  لا يستعملون هذه الألفاظ الثلاثة إلا في النادر اذ يفضّلون عليها لفظ "حكاية".

إن قضية  الانتفاضة نفسها أصبحت "حكاية الانتفاضة"/ وقضيّة  العجز الاقتصادي أصبحت "حكاية العجز الاقتصادي"/ وقضية المجلس التأسيسي الذي كانوا يلهثون وراءه و الإقبال المتدنّي ،في نظري، على  الترسيم لانتخابات المجلس التأسيسي أصبحا هما أيضا "حكاية".

 إن هذا التسطيح الذي يعني من ناحية إفراغ التجربة الاستقلالية من مضمونها " الوجودي/الصوفي/الشعبي"، والذي يعني من ناحية ثانية ، وفي كنف نظام فرديّ قمعي خانق ومتعلّق في الآن نفسه بالتعليم الحداثي (وهذا هو التناقض ذاته الذي يميّز العقلانية الرافضة للتفكير المادي) السعي الى تحقيق "فرحة الحياة"للمستفيدين من هذا النظام وحدهم،سيميّز الفترة البورقيبية وما تلاها حتى انتفاضة جانفي 2011 .

ويبدو أن من مظاهر هذا التسطيح ما  رأينا من  ميل عامة التونسيين الى استعمال لفظ "حكاية" عوضا عما هو أضرب في الوعي السياسي أي ما يغوص أكثر في تربة الأرض  الاجتماعية السياسية  لترسيخ بذور الرفض الاجتماعي" النحلي التغييري" فيها ترسيخا يصبح " طبيعة" في الإنسان  التونسي "الآن وهنا" لا "غدا وهناك".

 لقد تفطّنت الحكومة المؤقتة حبّ التونسيين الحكايات (أليست هذي العصيّا من تلك العصا ؟ )وهذا هو ما دفعها في المدة الأخيرة الى أن تروي لهم" حكاية" الضابط سمير الترهوني حول واقعة المطار. ومن المعروف أن من معاني الحكاية الطرفة والنادرة.

ويقترن بهذه الذهنية  التسطيحّية الباردة اللصيقة بالأرض السويّة التي لا نتوء  فيها تورّم ادعائي لا يعرف المرء ما الذي يبرّره على مستوى الوعي السياسي  فكم سمعنا أصواتا "ذهبت مع الريح" نادت  في فورتها بضرورة إسناد  جائزة نوبل الى تونس "لانتفاضتها"   !! وكم  رأينا من ادعاءات بأن تونس  أتت، بانتفاضتها، بما لم يأت به" الأوائل" !

 وأنا شخصيّا لا أعرف بالضبط من المقصود بالأوائل.

لقد صّدق القوم "مدحيّات" ـ ومتى رأيتم المدح مكلفا ؟ـ  من هناك ومن هنا  فلم يتفطّنوا أن البلاد الغربية خاصة لا يمكنها أن تنظر الى بلدنا إلا باعتباره في أحسن الأحوال تلميذا رخوا قصيرا وان تطاول  "قابلا للحياة" و"بـشروط".لا أراها الآن متوفّرة تماما. فبالغوا في  القفز بهلوانيا على حبال عنكبوتية تسلية لـ" سوّاح"  يحسبون كل شيء حساب التجار وليس يمكنهم  أن  يتخلّوا عن سياسة الوزن بميزانين مختلفين  إلا في بعض البلدان ولأسباب معروفة  تحيل على أسطورة حصان طروادة .

 وعلى الوزير الأول أن" يدبّر"، وهو الذي لم يعش وضعا شبيها بما نرى اليوم   لتبدّل الأوضاع في كل بلاد الأرض، عالما تونسيا يشهد فترة انتقالية أي استثنائية حقيقية لا مجرد حكومة "تصريف أعمال" مستحيلة مهما ادّعى المدّعون.

إنه لم يسبق لي أن قلت في الوزير الأول كلمة نقد واحدة فلماذا ياترى ؟

هذا الرجل قال منذ البداية ومن دون كذب على الناس "انّه بورقيبيّ وانّ دوره لأجل مسمّى، يتمثّل في تخليص الحرير من الشوك" .

هو لم يكذب على الناس لذلك تحاشيت الحديث عنه ثم إنه يعرف البلاد جيّدا قديما  وحديثا مثلما يعرف  تماما وزن بلده  الحقيقي مغربيا وعربيا ودوليا ويدرك، توقّيا، الحاجة الى إدماجه إدماجا كليّا في المعاهدات القانونية الدولية من دون استثناء.

هذا التقييم لسياسة الوزير الأول لا يمنع من إبداء ملاحظة أساسية، في نظري على الأقل، تتعلٌق بمدى قدرته،  وهو الذي عاش، مثلما سبق أن قلنا، زمنا غير هذا الزمن، على" ترويض" هذا الجواد الجامح المسمّى بتونس الصغيرة مساحة وعدد سكّان.وفعلا فان الباجي قائد السبسي  كان يمكن ، لو كان التاريخ يساير أهواء الناس، أن يكون  واحدا من  أفضل الدستوريين  القادرين  في سبعينات القرن العشرين ـ أي قبل  40 سنةـ على الحفاظ على الإرث البورقيبي  ولكنّ الدود  منذ هذه الفترة بالذات سكن الثمرة نهائيّا.

إنني أتحدث عن السبعينات  لا عن الثمانينات التي  اجتهد قائد السبسي في تحديدها منعرجا يقي كثيرا من المجرمين من العقاب.

إن هذا التحديد التاريخي لفترة "الحرير الدستوري" وفترة "الشوك الدستوري" يعني عندي الكثير مما لا يسمح المكان بالتوسع فيه الآن.

 فهل يمكنه الآن أن يدعي ـ هو أو غيره ـ قدرة خارقة على تقييم أنباض المجتمع التونسي الانتقالي الأربعوني  المختلف تماما  عما سبقه سواء في أنباضه الحيوانية أو الإنسانية تقييما سليما ؟

إنني ، معرفة منيّ بوضع البلد الاقتصادي  وتقديرا لصراحة الوزير الأوّل ، لن أتعرض  له بالنقد في هذا المجال ولكنني أدعوه في ما يتّصل بالميدانين القانوني والسياسي دعاء ملحّا لن يزيد إلا من تقدير عدد كبير من التونسيين له يتمثّل في تقوية النبض الإنساني في هذا البلد أقصد إيلاء ما يطالب به القضاة من صيّادي المجرمين الدستوريين الأهمية الأولى في هذه الفترة خاصة.و لقد سبق أن طالبت بمتابعة من أجرم منهم ولو في القبور أي رمزيا.وأقصد تمكين الإعلام من وسائل تسمح بتتبع المجرمين في هذا المجال لأنه ميدان يلائم نموّ كل الجراثيم السياسية الضارة خاصة أنه وجد في سعة جبّة حرية التعبير ما يمكن من وأد الانتفاضة في المهد.

ولا يقولنّ لي  رئيس وزراء أو وزير عدل في بلد مثل بلدنا وفي البلدان الشبيهة به انه بريء من كل تدخل في هذين الميدانين اذ لن يصدّق حتى نفسه.

 أقول هذا لأنه إذا كان عدد من الناس قد قبلوا، اضطرارا، وأنا منهم، بسياسة الوزير الأول القائلة بــ"تخليص الحرير من الشوك" فلقد بدأت أخشى أن لا يكون ما ذكر من حرير غير وهم و"برق خلّب."