قراءات في سطور المدينة الإسلامية المقطورة حضاريّا.

بقلم محمد الناصر النفزاوي

أنا مغربيّ رشديّ فأنا، إذن، علمانيّ.

 أوحى إلي هذه القراءة تلفون تلقيته  مساء الأربعاء(بكسر الباء).كان مهاتفي  تلميذا قديما (مراد ص) بالغ في تعداد محاسني لأنه لا يعرف عنّي في حقيقة الأمر كثير شيء ثم  ألحّ عليّ أن  أساهم في النقاش الدائر في البلاد التونسية وفي غيرها من بقية البلاد العربية المسلمة والبلاد  غير العربية المسلمة ومن ثم في  عدد من  أصقاع العالم حول "الإسلام والعلمانية"(بنصب العين)  ولكن في لغة  عارية عريانة ومبسّطة.

كان مفاد جوابي من البداية الاعتذار وان في شكل مغلّف ولكنني ،على الرغم من ذلك ،  ها أنا أكتب  هذه المقالة.فلماذا رفضت في البداية ثم تراجعت عن قراري ؟

لقد رفضت في بداية الأمر  لسببين اثنين:

أولهما  هو العنوان نفسه: فأن  تقول "العلمانية والإسلام" شيء وأن  تقول "الإسلام والعلمانية"( أي  على "وزن" الشريعة والحياة في البرنامج الديني الغزالي/القرضاوي/الاخواني في قناة"جزيرة قطر") شيء آخر.ذلك أنه منذ أن  ظهرت  بعد الحرب الكبرى (الأولى) " فلسفات تاريخ" غربية مثل فلسفة شبنغلر ثم توينبي ثم  جب ... تتناول نشوء الحضارات وتحاول تحديد أعمارها وأعراض شيخوختها(ومنها الحضارة الإسلامية) ثم تحلّلها فموتها حتى  "انبرى " ديانيون مسلمون لم يتعوّدوا(منذ هذه الفترة خاصة وحتى أيامنا هذه) على غير" الضجيجالكلامي  وعلى ردود الفعل "الخطابية" سواء في الدين أو في السياسة لصدّ ما سمّوه" هجمة صليبية على الإسلاممعتبرين ، على ما يدعون، أن الحضارة الإسلامية استثناء  لا تجب مقارنته  بالحضارة الفرعونية أو اليونانية أو غيرهما من الحضارات مجتهدين في منع الشباب من المقارنة من خلال نشر  الكتب المجرّمة.

من هنا بدأت  كتابات "ردّ الفعل" غير السليم. وأنت لن تجد كتابا إسلاميا واحدا لا يدخل ضمن ما أقول بدءا بكتابات إخوان مصر وصولا الى الاخواني المصري القديم يوسف القرضاوي وزوائدهم الدودية في بلاد المغرب  حتى انه ليمكن القول إن ما جاء في فلسفات التاريخ هذه قريب من  المنطقي بشهادة هذا النوع من الردود الإسلامية التي لا تعتمد الفعل في التاريخ ولكنها تنتظر مثل "الفأر" تماما ، أن يستفزها " قطّ" غربي  حتى "تتصدى" له "بسلوك" "فأري" لا  يرقى الى مستوى الخطر الحقيقي الذي يتربّص به.

لقد كان بناة الحضارات، ومنهم محمد،  مبدعين فهل ترون في أمثال هذه"الفئران" البشرية مبدعين؟

إنني لا أرى ذلك. ومن يقل العكس" فله دينه ولي ديني"وله "وطنه ولي وطني"لأنني لا أحبّ "مساكنته"لا  فوق الأرض ولا تحتها.

أما السبب الثاني فهو يتصل بي شخصيّا، ذلك أنني لا أميل في مثل هذه القضايا الشائكة الى "مناطحة" ذوي  التفكير البدائي سواء من عامة العامة أو من قادتهم من "المفكرين الدينيين السياسيين" ذلك أنني ،   تماما مثل هذه الحيوانات التي  لم تدّجن كليّا، أميل   إضافة  الى تنشئتي الدينية الأولى ، لا الى استعمال العقل فقط ولكن  حاسة "الشمّ" كذلك وأحيانا بإفراط.

و العقل وحاسة الشمّ هذه أوحيا إلي أن. طرح قضية علاقة "الإسلام باللائكية"( في هذا الزمن الذي  توشك فيه الحضارة الإسلامية على الأفول نهائيا إن لم تتّخذ من الرشدية حاديها ، هذا  إن لم يكن فات الأوان) ومن  ثمّ علاقة بلاد المسلمين بالغرب وما قام عليهما من  "حروب" تشغّل الكثير من  "المقاولين" الفكريين شرقا وغربا إنما هي قضية  مصطنعة أي  مغلوطة من الأساس لأنها ، وان اصطبغت بصبغة "عقلية" صرف، فان رهانها الأول والأخير هو السيطرة على المجتمع العريض الذي  ليس في إمكانه  ، وهو الفقير علما وفلسفة  وثروة، أن  يفهم  مصالح القوم في إثارة مثل هذه القضيّة "الفّخ".

 والدليل الحاسم الأول على صحّة ما أقول هو ما يلي:

إن الغرب لم يكن له  وجود يذكر عندما بدأ  المفكرون المسلمون بطرح  هذه القضية زمن الموحدين إن لم يكن قبله، أي زمن المنعرج الأكبر في الحضارة الإسلامية في القرن الثالث عشر الميلادي،وكان المسلمون آنذاك ممثلين في "نبت" الغزالي المشرقي  وفي "نبت" ابن  رشد المغربي: كان الأول يمهّد الطريق للإسلاميين في القرن العشرين من  الذين يميلون الى "تصيّد الفقاقيع الصابونية سريعة الزوال" بالاستماتة في الدفاع عن سببيّة عمودية تكاد أن لا تترك للمسلم  شيئا   في تحديد مصيره "الآن وهنا" وكان  كل تفكير الثاني، وهو علماني مسلم الى أن  يثبت عكس ذلك، يستميت في الدفاع عن سببيّة أفقية لا  "تطيح " بالله العليّ ولكنها تتعالى به  فتنزّله منزلة سامية عليّة هي منزلة "تدبير الكون" لا الانشغال ب"تدبير " بيوت العبيد والعباد( من العبودية) مثل بيت هاته التي "تتسّود" لباسا في جند/أوبة   أو في  "أم القرى" في الحجاز.على سبيل المثال أو بيت هذا الشيخ المصري القطري  الثمانوني (لا الستوني مثلي) الذي  دفعته بقايا  شبقيّة جنسيّة لاهثة الى أن يسعى الى"تطريّة" عروقه" بـ"لحم وعظم" جزائرية غضّ ومغفّلة" فـ"تزوّجها "(وأنا  أودّ أن أفهم كيف؟) "أي ذبحها " إسلاميا"(على وزن دجاجيّا) مستندا هو  أيضا الى القياس وما أدراك ما القياس  هذا الآفة المدمّرة  في البلاد الإسلامية ذات التراث الغزالي الذي   يدعي أن التاريخ يكرّر نفسه حتى في العادات والذوق  أي في الملابس والمآكل والمناكح.

انك لو بحثت عن سكين حادة قادرة على أن تنحر الإسلام الرشدي القويم فلن تجد أفضل من الغزالية وفراخها  الذين يمكن أن تجد  منهم نماذج في أقربائك وحيّك وبلدك وسواء أكانوا يلبسون ما يلبس عامة الناس أم انتمين الى عرش"أولاد وبنات الأكحل"(أي الأسود).والغريب هو أن الجامع بين كل هؤلاء هو الادعاء بأنهم مضطهدون(بفتح الهاء)في حين أن  الواقع يدل على أنهم مضطهدون(بكسر الهاء) أكاد أن أقول  "غريزيّا"وسواء أكانوا، وأنا أزن كلامي زنة الذهب الذي لا أملك منه شيئا ، أغنياء أم فقراء.

ومن المعروف أن  العلماني ابن رشد سبق أن اضطهده "المسجد الغزالي" قبل ثمانية قرون ، لنهجه  العلماني في التفكير الديني وهو رجل الدين الورع الذي لم يستطع أحد أن يتهمه في  سلوكه باستثناء خصومه  تماما مثلما يفعل  القائلون بـ"السببية العمودية" اليوم  مستنجدين برعاع المسلمين مثلما استنجد أجداهم قبل اثني عشر قرنا  بـ "الحفاة العراة فكريا" لامتحان الفيلسوف المغربي. وهو ما يفيد أن لا نجاح لفكرة "السببيّة العموديةإلا بوجود "بروليتاريا رثّة" إسلامية  لا "ناقة لها ولا جمل" في حقيقة الأمر، في هذا الصراع الفكري اللااجتماعي:

ولقد رأينا في النصف الأول  من هذه السنة الانتفاضة "الصبّارية" التي تحّولت الى انتفاضة تونسية عامة تلقي ولو لفترة وجيزة(بسبب  ردةّ المحافظين التونسيين والسماسرة الذين  ليس لهم من "وطن" غير  جيوبهم ومن مبرر للوجود غير "شبقية  علب الليل الحقيقية أو أشباهها" )، تلقي قلنا بالغزالية التي تفسر التاريخ عموديا في المزبلة و تؤكد صحة  الفكر الرشدي العلماني(وأنا هنا أتجنب عمدا  الوصف:الماركسي) الذي ردّ ما حدث في تونس الى تراكم معاناة  اقتصادية جسدية نفسية سياسية تحوّل  بعد "ثورة الخبز"أيام بورقيبة  ثم أحداث الحوض المنجمي خاصة الى انفجار أحرق كل مضاربات السياسيين: وأنا لم أقرأ الى اليوم  حتى عند  الغزاليين من  السياسيين الإسلاميين من كتب  حرفا واحدا يرّد فيه هذه الأحداث الى  إرادة الاهية كانت وراء هذه الأحداث أي الى سببية عمودية تتدخل في كل صغيرة وكبيرة في هذا البلد فلا يحدث شيء ،مثل تغّول الزائدة الدودية الزينية البنعليّة  أو استئصالها ولو بنسبة  معيّنة، بإرادة من الله.

بقي هذا القطيع من البقر البشر الذي أفتى بما يفيد تكفير الشاب البوزيدي وما أتى  من فعل نحر نفسه  مطبقا  حكم آية "صالحة لكل زمان ومكان وظرف" : هؤلاء الناس لن  يتحدث عنهم الموقع لأنهم قرؤوا القرآن قراءة  أطفال أي قراءة ابتدائية حتى  لا أقول بدائية.

لقد اختفى الغزالي  في أحداث الثورة التونسية هو  وسببيته العمودية وظهر ابن رشد وسببيته الأفقية متألقين ولا تفسير عندنا لمثل هذا الانقلاب إلا تدخّل" العامة والرعاع و السواد والغوغاء" التي تحولت بين عشية وضحاها الى مواطنين قابلين بالموت ، هذا  العامل الحاسم، الذي يجبن أمامه  عامة المثقفين فيسعون الى تلافيه بدفعه "غزاليا" أي بما يحّصن المرء إزاء كل حيرة هي الدافع الحقيقي للإبداع العقلي  اذ  من شروط الإبداع المغامرة  وهذه مقترنة ضرورة بإمكان الموت وكيف يستغرب المرء ممّا يحدث ونحن نشهد، بأم أعيننا، نهاية الحضارة التي أطلقت عليها عبارة "الحضارة الإسلامية" .

إنه ليس في الإمكان الحفاظ على الحضارات  بوهم غناء  مطرب أو غناء جنائزي.وتلك حقيقة  أزلية

ملخّص ما سبق هو أن هذا التضاد شرق/غرب الذي اتّخذ منه القوم مطيّة لمحاربة العلمانية  اليوم ليس أكثر من اختلاق  وهو يدخل عندنا ضمن القولة "الحرب خدعة" وفي هذه الخدعة تسقط أجيال وأجيال.

ـ لا يكف خاصة العرب  و المغاربة من الآخذين بالرشدية (أي من الذين ينفرون من الحنبليّة والغزّالية والوهابية والسيّدية القطبية والقرضاوية  وزوائدها الدودية في بلاد المغرب ومنها تونس) عن تعداد  فضائل العلماني ابن  رشد على الغرب لأنهم ، باعتبارهم عقلانيين لا يولون حركة المجتمع أهمية تذكر (على العكس من العلمانيين الاشتراكيين)ولكن ابن رشد هذا سوف يهضمه الغرب بعد أن خلّصه من الشوائب التي نبّه إليها التطور ليتجاوزه  بعد ذلك لأن حركة  التقدم ، ليس  يمكنها ، وان  عرفت  فترات تعثر تتعدد أسبابها، أن ترى في غير المستقبل ، مهما  يكن لونه، حاديها.

إن المدة التي اقتضاها الصراع بين الآخذين  بالعلمانية الرشدية من الغربيين والآخذين بما يرادف الغزّالية عندهم  تعد بالقرون لا بالعقود ولكننا نلاحظ أنه  منذ نهاية القرن الثامن عشر وخاصة في القرن التاسع عشر مالت الكفة نهائيا للآخذين  بالعلمانية الرشدية بعد أن صقلتها البيئة الغربية وارتدّ الغزاليون الغربيون الى مواقف دفاعية ترى في الكنيسة  حماها.

وفي هذه القرون الخمسة ما الذي كان يحدث في بلاد الإسلام ؟

كان يحدث انخماص في الجسد المادي الاجتماعي الفكري لم يسبق أن رأى له المسلمون شبيها في ما عرفوا من تاريخهم.وبدأ العلماني ابن رشد بعد سلخ  القدر  الضئيل مما كان  يتضمّن من "سببية عموديّة" ينحاز نهائيا لنظرية الكم ويغزو، وهو يلبس قبعة غربية، بلاد من كفّروه في الزمن السابق بلدا بلدا:

 كان مرّة يظهر في صورة آدم سميث ومرّة في صورة كوندورسيه ومرة في صورة  ماركس وأخرى في  صورة داروين.ولا يستنكف في حالات عديدة من إعادة ربط الصلة بمواطنه القديم "ربّي موشي بن ميمونصاحب " دلالة الحائرين".بعد أن خلّص نهائيا من "شحمه"الميتافيزيقي.

انه ما يسمى بـعصر "الاستعمار""والاستعباد"و"الهيمنة" أي هذه الحقائق الواقعية التي ستتعدد مواقف العرب والمغاربة بمختلف أديانهم ومذاهبهم وطوائفهم والمسلمين منها.

و.فعلا فقد انقسم كّل هؤلاء ثلاثة أقسام:

القسم الأول لا أدريّ أو على الأقل غير متحمّس لكل أشكال الصراع العقائدي في حياة تقوم أساسا على الصراع.بكل ما يتضمن من "ضربات تحتيّة"على  حدّ تعبير الملاكمين.

القسم الثاني رجعي أو ارتجاعي أي قائل بـ"نظرية الانحطاط"بمعنى أنه يقول بفترة ذهبية في تاريخ الإسلام هي فترة ولادته وإزهاره وازدهاره ويعتبر كل ما لحقها مسارا انحطاطيا فلا بد من العمل على استعادة هذه الفترة. ويعدّ أغلب الإسلاميين منذ الزمن الوهابي الأول وجوها مختلفة من هذا التيار.الذي يتصف بحيوية كبيرة لأنه ينشط في أرض سبق للغزاليّة أن مهدتها وهي أرض شاسعة محورها الأساسي الجزيرة العربية.التي سيمكنها النفط  والدعاة المصريون الاخوانيون ( نفط سعودي+ فكر مصري غزالي) من قدر كبير من التأثير السلبي في مسار فكرة التقدم

 أما القسم الثالث فهو القائل بفكرة التقدم بكل ألوانها أقصد المحافظ منها والراديكالي والملحد.ذلك أن العلمانية هي أيضا علمانيات تماما مثل الإسلام وكل الديانات الأخرى.

ونكاد أن نستغني عن القول إن هذا التيار الرشدي العلماني يرى أن من حقه أن ينتصر لابن رشد في مختلف عصور تجسده بدءا بابن رشد الموحدي وصولا الى ابن  رشد بعد أن" لبسته" القبعة الغربية أو "لبسها"

ولسوف يجتهد التيار الإسلامي الغزّالي في تشويه صورة التيار العلماني الرشدي فيصفه ، تماما مثلما فعل الغزالي  بخصومه من الفلاسفة، بـ"المتغرب" الذي  ارتدّ عن نهج "الأجداد".  رافضا أن يعدّ ابن رشد من ضمن هؤلاء الأجداد.

هذا التيار الرشدي العلماني يماشي روح العصر بل كثيرا ما يندغم فيها ولكنه شبيه بهذا "الاستراتيجي" الذي لا يتوافر له جيش متعلّم أو مدرّب أو بهذا الصناعي الذي لا يعثر وهو يبني مصنعا  غاية في الحداثة على غير" فلاحين موسميين" لتشغيل مصنعه.، على عكس الوجه الغزالي في الإسلام الذي يتوافر عنده فائض من البروليتاريا الفكرية الدينية الرثة.

لقد أظهرت إحصائية تونسية أن  راشد الغنوشي يتصدّر  قائمة الشخصيات  الأكثر شهرة في تونس وكم قرأت من مقالات تتحدث عن وعي الشعب التونسي وكنت في كل مرة  لا أبتسم بقدر ما  أغتاظفهذا الشعب قد يكون في جزء  معيّن منه  حامل شهادات عليا في  اختصاصات متعدّدة ولكنني ما كنت أتصوّر  أنه على ما رأيت من تضخّم وعي "بطنيّ"مقترن بخواء فكري سياسي  ولا أستثني مما أقول عددا غير قليل من  مؤسسي أحزاب سياسية وإذا أضفنا الى ذلك  ضعف الذاكرة السياسية التي ستنتهي بعامة التونسيين الى سياسة "عفا الله عما سلف"التي بدأت باستثناء عدد من البورقيبيين  الذين حكموا قبل 1987 وارتكبوا الفظائع من المحاسبة التي يجب أن تطال ولو رمزيا من هم الآن في القبور، فهمنا "اللعبة القذرة"، لعبة "ستر العورات" ومنها "عورة" الاتجاه الإسلامي في  فترته "القطبية" التي لا تختلف في شيء عن "عورة" القطبيين" الجزائريين الذين كوّنهم لا ابن باديس وإنما القطبيون المصريون مثل  الغزالي ومثل القرضاوي وغيرهما الذين حلوا بالجزائر بعد الاستقلال و استغلوا جهل قادة الجزائر أنه لا نهضة اقتصادية أو صناعية  يمكن أن تبنى على أسس ثقافية غزالية اخوانية  فحتى في تونس التي حكمها  الرشدي التونسي  الحبيب بورقيبة واتخذ من الوزير المسعدي درعا واقية من الغزالية الشرقية بيّن  الإحصاء الذي أشرنا إليه  أن كل تقصير تنموي ، ولقد كان خطيرا في تونس،  يمكن أن يفتح الباب واسعة  أمام  الغزالية بتلويناتها المختلفة بل يمكن أن يقود الى "تكرار وقائع بني هلال وسليم وأتباعهم" على الرغم من وجود "ألف منظمة ومنظمة"للدفاع عن حقوق الإنسان اذ حقوق الإنسان وحتى الحيوان لا تصمد طويلا إزاء "حقوق" البطن" (أي الكرش بالكلمة الغالبة على استعمال التونسيين) .

إنني ، شخصيا، فهمت من الإحصاء أننا بإزاء ما يمثل  كارثة حقيقية بالنسبة الى واحد مثلي لا لأني  أخشى من حصول النهضة على نسبة قد  تتراوح بين 10 و عشرين في المائة من الأصوات  فيقيني هو أن الشعب التونسي الذي  رأيت لن يتمكن "الشيطان" نفسه من  أن يحكمه في المستقبل مثلما كان الأمر في السابق من السنين بل إن هذا الأمر لا يهمّني فأنا أعتبر التيار الديني "فقاعة صابون" تدعي  "نهضة" في تونس  بعد أن حلت "القارعة وما أدراك ما القارعةّ بكل بلاد الإسلام" التي  تقترب من الاضمحلال ولكن  ما يشغلني هو  "فقر الفكر السياسي التونسي" الذي لا يعادله غير"الانتفاخ الادعائي" المقرون بالكذب: فالغنوشي على سبيل  المثال (لأن أقرانه كثيرون في عدد من الأحزاب السياسية)بدأ بالكذب على الناس عندما تحدث هو وصحابته من الغزاليين عن "نهضة" لم أتمكن الى اليوم من فهم معناها لغويا ودينيا واقتصاديا.

لقد نام القوم ثمانية قرون كاملة أي أكثر من نومة" أهل الكهف"وهاهم يتحدثون الآن عن" نهضة" يشرف عليها "شامان" لم يستفق من نومه على  ما يقول هو نفسه  إلا  "البارحة" اذ قال بعظم لسانه ، إن كان في اللسان عظم، ،إنه لم  يكتشف وجود مالك بالنابي إلا سنة 1969:

" سألته (يقصد بالنابي) عن المسألة التي حيّرتني،  مسألة الإسلام والحضارة ؟ فاستفاض في الشرح حتى انجلت من نفسي كل شبهة وانقشع كل التباس حول المسألة التي شددت إليه الرحال من أجلها فخرجت من عنده وقد امتلأت قناعة بأن هذه المسألة هي قطب الرحى الذي يتحرّك حولها فكر الرجل(...) فإذا كان الحديث في الحضارة فلا يفتى ومالك في  المدينة".

 إنني لن أعلق على الأسلوب  الذي  لاشك  أنه  أثار  عند العارفين باللغة المطلعين على   ادعاء البعض من القدماء خاصة عيش تجارب ذاتية/دينية أكثر من  خاطرة ولكنني أسأل :ما الذي  ياترى  لم يسبق للتونسي المتعلم أن عرفه  في الدين والاقتصاد مما بدا  عند مالك بالنابي في خمسينات القرن العشرين وستيناته أنه يستأهل الكتابة فيه ؟ وهل يجب انتظار نهاية ستينات القرن العشرين  حتى يبعث " مالك نورا في قلب الغنوشي" فتنجلي الحقيقة أمام عينيه (ولقد  سبق أن بينّا  أن القصة في مجملها كاذبة بشهادتنا التي لا تقبل أي دحض جدّي).

هل فهمتم الآن ما  قصدت  بالكارثة ومن ثم  سبب نفوري من أمثال هؤلاء الساسة الذين يسلكون سلوك" العمشاء في بلاد العميان"أي المسلمين" .

هذه " العمشاء"موضوع ما سبق من حديث  يبدو أنها اكتشفت الآن وسيلة للخلاص من السببية العمودية الغزالية وللانخراط في  رشدية تجاوزها الزمن هي نفسها و أصبحت في عداد الأموات ومفادها "لا يغيّر الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وكأن الأمر ما زال بيدها فويل للمنافقين.

إن هذه طريقة  ماكرة  لتبني "ثورة الصبارة" وما سيليها من تغيير  في بلاد المغرب وفي غيرها من البلدان.طال الزمن أو قصر. أقول هذا لأنني أعتقد أن الأمور لن تتغير كثيرا في المستقبل المنظور لسيادة ما وصفت من  هذا الوعي البطني المقرون بخواء فكري سياسي.مطليّ بالكذب والوقاحة.

هذا هو الشق الأول من الموضوع شرحت فيه سبب رفضي في البداية الكتابة في  موضوع  "الإسلام واللائكية" فأنا قد أقبل بكذب "الصغار" إلى حد ما ولكنني أرفض المشاركة في كذب "اللئام"(وأنا لا أعرف في العربية كلمة تتضمّن ما تتضمّن هذه الكلمة من مخزون استهجاني) من السياسيين "الكبار" مثل من يرون في محاربة  العلمانيين التونسيين على سبيل المثال دفاعا عن الإسلام وتوقيا من "الغرب" و الحال هي أن علمانيي بلاد المغرب هم ورثة  جدهم المغربي ابن رشد. وإذا كان عدد منهم يميل أكثر من اللازم إلى شمال المتوسط فتفسير ذلك  منطقي إذ كان جدهم ابن رشد  متوسطيا بل آخذا بنوع من "العولمة" في بذورها الأولى.

 إن ما يشكو منه الإسلاميون  الغزاليون( وهذه سمة جديدة من سمات قرب اندثار الحضارة الإسلامية في وجهها الغزالي) هو هذا النقص الوراثي في الإبداع:

إن خير الدين وابن أبي الضياف وغيرهما كانوا في القرن التاسع  عشر يتخذون من ابن خلدون "العلماني" مرجعا  مركزيا في أبحاثهم. وفي القرن العشرين  نرى الحداد  وجراد والشابي ، وجميعهم من  تلامذة الزيتونة، يصدرون في كل ما كتبوا عن علمانية واضحة المعالم لا يشكك في ملامحها إلا جاهل أو سياسي  قد يكون مستوردا  يستعمل في خطابه "اللغة المالطية"أو منافق(بالمعنى القرآني للكلمة) وكلهم سبقوا بورقيبة "الاستئصالي". فهل يصح أن نصف كل من يحارب الغزالية وينتصر للرشدية  بالاستئصالي؟  إنه قد يكون سعى إلى استئصال الغزالية دفاعا عن "النفس الفكرية" والدفاع عن النفس لا يعد جريمة. أما أن نرادف بين الغزالية  والإسلام فهذا ضرب من "اللؤم الفكري" ولقد شرحت قبل الآن ما المقصود باللؤم.

إن الاستئصالين هم من "استأصلوا" ابن رشد منذ ثمانية قرون  ومهدوا لسقوط الإسلام في "الغزالية" التي انتهت بنا إلى الاستعمار وما وراء الاستعمار الذي ما زال يكبل بلاد المسلمين وقد  يرافق نهاية الحضارة الإسلامية فتمّحي من الأرض وتصبح ذكرى لفترة لن تطول.

لقد كان العلمانيون المغاربة أكثر الناس إحساسا بالعصر.

هم لم ينتظروا حرب 1967 حتى يقذف الله في قلوبهم "نور" أصولية معادية لبلاد المغرب عميلة لأكثر بلاد المشرق تخلفا في "فهم الدين والدنيا" جميعا.

لهذا ليس يمكن لواحد مثلي أن يكون إلا علمانيا.ولهذا أشير الى أمر أختم به مقالتي هذه وهو موجه الى المسلمين  الغزاليين وإلى الرشديين ممّن يدمنون الانترنت خاصة وهولا يخلو من" قصصيّة" لأنه يعيدني إلى زمن التدريس:

إن  99 في المائة ممّن  كان لي بهم  اتصال في العمل يجهلون سبب "طردي" من التدريس في المرحة الثالثة في كلية منوبة التي كنت أعدها "وكر زنابير" لا "منحلة" (وليتذكر أتباع بالنابي تمييزه بين النملة "المسلمة" الخزّانة (أي الغزالية) والنحلة "الرشديّة" الحوّالة " التي تكثر في بلاد الغرب وتقل في بلاد المسلمين).في هذه الكلية كانت الأغلبية الساحقة من مدرّسي اللغة والآداب والحضارة العربية مكونة من زنابير اللغة أو من مدرّسي الأدب العربي القديم والحديث أقصد الأدب إمّا المصري أو اللبناني. أمّا ما يسمى بالحضارة وخاصة التفكير السياسي والاجتماعي في بلاد المغرب فهو غائب تماما بسبب تكوين القوم.

وما أن حللنا "ضيوفا" غير مرحّب بهم حتى بدأ اللمز والغمز:فنحن قرّرنا ألاّ ندرس إلا ما  يتصل ببلاد المغرب أوّلا ثم اشترطنا ثانيا على الطلبة ألاّ  تكتب رسالة من الرسائل إلا إذا تضمنت مقارنة فكرية سياسية بين متجايلين أو أكثر من بلاد المغرب ينتمون إلى تيارات مختلفة فما كان من ردة فعل الزنانير المشرفين إلاّ أن بعثوا إلينا برسالة "لطيفةيقول محتواها إن   هذا الأمر لا يندرج تماما في  الاختصاص.

كانوا غزّاليين روحا وكنت علمانيا  روحا.

ولقد أفادتني هذه التجربة ،من ناحية أخرى، في اكتشاف أمر آخر في الفترة التي كان يعمل فيها بالشفاهي: ذلك أن عددا من الطلبة والطالبات كان يجلس إليك في الامتحان (من المحنة في الأصلوإذا طرحت عليه سؤالا  حول شخصية مغربية يبدأ بإلقاء" خطبةتندرج ضمن أسلوب:" لا شكّ أن../ هذا الأمر إن دل على شيء فإنما يدّل /الخ"   حتى تضطر الى أن  تقول له:"حسنا. فهمت أنك تعرف..." ولكنني سأطلب منك مجرد أن تصف لي حجم الكتاب الذي قرأت ومتى صدر تقريبا وعدد صفحاته تقريبا: 100 أم 300 أم 500 ص." وعندها فقط يحلّ الصدق  محلّ ما لا أريد أن أسمي.

عندما شرعت في تخيّر  كتب المكتبة النفزاوية تذكّرت هذا الأمر وتذكرت  كم لعن الطلبة أمامي داروين وماركس وفرويد  أو حتّى ابن رشد فقلت : لم لا أضع كتبهم بين  أيديهم حتّى يروها مجرد رؤية  ثم ليتوضّأ المغالون منهم بعد ذلك إن شاؤوا.

وحتّى هذا الاختيار لم يكن  متاحا في  أغلب الأحيان ذلك أن الدولة الوهابية تعدّ أخطبوطا  غزاليا  سامّا  في مقدوره أن يساهم في إتمام  الدورة الإسلامية وإغلاق قوسها نهائيا فلقد مدّت أتباعها بإمكانات هائلة لتصوير ما تشاء من الكتب المعروضة  للنشر مجانا على الانترنيت ومنع ما تشاء: فأنت يمكنك أن تقرأ  آلاف الكتب في تكفير العلمانيين والتغريبيين والملا حدة الخ ولكنك لن تعثر على كتاب واحد يعرض على القرّاء نسخة  مما كتب هؤلاء المتّهمون:

 إنها سياسة "اخفض يديك وهلمّ نتصارع".

وهي اللاّأخلاقية مجسّدة في قالب برميل نفط.

أمّا نحن فنحبّ لأولادنا (بالمعنى الجيلي لا البيولوجي) مصيرا آخر: أن يقرؤوا الشيء وضده وأن يختاروا طريقهم بأنفسهم أي من دون وصاية أحد.

لا نريدهم نملا.

نريدهم نحلا.

لا أكثر ولا أقلّ.