الطريق الجديد، 12 أكتوبر 1985
قراءات في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

سنوات الرصاص

مضاعفات الغارة الاسرائيلية الأمريكية على برج السدرية لن تتبدى للعيان الا شيئا فشيئا ومع ذلك فيمكن من الآن أن نقول ان هذه المضاعفات سوف تكون خطيرة اجتماعيا سياسيا ونفسيا...عن الاقتصاد لن نتحدث اذ الوضع أصدق انباء من الخطب .

ان السلطة الحاكمة منذ ثلث قرن  لم تعد  تستمد بقاءها من الولاء الشعبي الذي كانت تحظى به في بدايتها وما تستنجد به من قيم ورموز قد بدأ يتساقط الواحد تلو الآخر. تعرف السلطة الحاكمة  أكثر من غيرها ذلك. تعرف كذلك أن بقاءها لا يعتمد على الفئات الواعية والحية في هذا الشعب, تعرف أن سندها الوحيد كان كتلا شعبية محرفة الوعي لا ثقة فيها حقيقة لأنها عودتها أن تكون مع الغالب مهما كانت وسائل غلبته وهذه الكتل أصيبت بعد الغارة في الصميم, تماما كالسلطة الحاكمة. كانت مسترخية وأفاقت على كابوس.

بدأ التساؤل يأكلها هي بدورها. عن شرعية السلطة. عن وسائل السلطة. عن قوة السلطة الحقيقية. وعندما يمس التساؤل الكتل الشعبية الغامضة في غياب مؤسسات ضبط دستورية فلا يحق لأحد أن يضحك بعد ذلك. لقد حسر النظام الحاكم الكثير من أوراقه = راهن على نظرة الى الحياة والمجتمع ظهر تهافتها . راهن على أمريكا طيلة عقود وحاول بإصرار قل أن وجد له شبيه في العالم الثالث أن يقنع الناس بأنه تجاوز بطريق حب الامبريالية مرحلة  الخوف من سادية منطق الامبريالية. فكان أن ضربته. وكان أن صفعته. قيم المال و المصالح وقيم الحب لا تتفقان. كل الناس أحسوا بذلك جسديا.  ومع ذلك فقد أقسم النظام أن لا تراجع. أفلم يقل الشاعر ما الحب الا للحبيب الأول؟  رغم المعارضة. رغم الدم التونسي الفلسطيني. رغم الاحباط النفسي الجماعي .كأن النسيان بقي ممكنا في هذا الزمن. كأن بعض الخطب التي لم يعد تقنع أطفال الابتدائية يمكن أن تشفي الجرح النازف في قلب الوطن.                                                                                

انها مأساة الحلقات المفرغة والحلول المأزوقة.  وهي  طريق الغطرسة اللامسؤولة حقيقة. وهي طريق خنق الرئة الوطنية لاستبدالها برئة اصطناعية. طريق محاكمات التونسيين السياسية. طريق احتكار الحكم. ان الخاسرين نتيجة هذه الغارة كثيرون. منهم الولايات المتحدة  نفسها لأنها أفاقت الدول المؤمنة بها والخاشعة لها والمسبحة...أرهبتها مرة واحدة. أحدثت سابقة في بلد بنى كل شيء علىالحب والهيام بجلال البنتاقون و بهائه لذلك لم يخطئ وزير خارجية ايطاليا وهو يعتبر ما حدث خطأ سياسيا فادحا. لا حبا في تونس و لا فيك وفيها. هذا الثعلب السياسي العجوز يتقن لعبة الشطرنج السياسية وقيمة البيادق مهما صغر حجمها ثم هو جرب حد البكاء في ايطاليا _ سنوات الرصاص_ وضعف الدولة وعدم اكتراث الكتل الشعبية الواسعة والولادة السرطانية للمجموعات الارهابية . جرب كذلك انتعاش الكواليس العسكرية في ظل ضعف المؤسسات الدستورية والخوف من المفاجآت. و اذا كان أمثال هؤلاء الأصدقاء حريصين حتى خارج  بلدانهم على استقرار سياسي يقي من المفاجآت غير السارة فما بال أهل مكة يضيعون الفرصة تلو الفرصة بسبب نهم سلطوي لا مستقبل له لتلافي مأساة لا نشك في أن بوادرها بدأت منذ زمن تظهر لعيان أعداد متزايدة من التونسيين من كل الطبقات بما في ذلك جزء من الطبقة الحاكمة ؟