الطريق الجديد، 2 نوفمبر 1985
قراءات في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

في المجلات الفكرية

للمجلات الفكرية أعمار
تماما كدول ابن خلدون
وأعمار المجلات محكومة في البلدان المنتجة للفكر للفكر والنقاد حقا بعوامل عديدة
بمدى ثراء ما تنشر وبجريان دم الحياة في سطور ما تنشر
بعدد القراء
بقدرتها على مقاومة ضغوط السوق وأزمة الورق
بتوفر الكفاءات الفكرية فيها
بذلك فقط يمكن أن نفهم لم تموت مجلات وتعمر مجلات
بذلك فقط يمكن أن نفهم لم تندثر أصوات أدبية وتبقى أصوات أدبية
نظريا على الأقل

أما في العالم الثالث فالمقاييس عالمية ثالثة

قد تخنق مجلات لأنها معارضة
وقد تعيش أخرى لمجرد أنها مجلات الأمير أو الحاشية
تعيش بحقن متجددة من "مال بيت المسلمين"
و "بيت مال المسلمين" هذا له أبواب ونوافذ ومداخل عديدة ولكنها كلها على اتصال دائم بالسلطة الحاكمة
للمجلات الفكرية كذلك خلفية ايديولوجية
هذه الايديولوجيات تختلف نوعا وقيمة ورائحة
تماما كاختلاف رائحة افرازات الجسد البشري
منها الطيب ومنها الخبيث
ولم نر الى حد اليوم كائنا مفردا أو كائنا جماعيا أو مؤسسة
فكرية لا تتظلل بايديولوجية ما
لم نر الى حد اليوم فكرا ليس ظلا تابعا ووفيا لمصالح طبقة من الطبقات
لا يوجد فكر بريء
لذلك وجب التساؤل دائما = ما هي الطبقات التي يخدمها توجه مجلة من المجلات أو جريدة من الجرائد ؟ وهل يمكن مثلا أن ترتاح الطبقة الملياردية التونسية لجريدة كالطريق الجديد ؟
بالطبع لا
وجب التساؤل
هل بالإمكان الفصل بين أي فكر وبين السياسة وللاقتصاد ؟
ان أي فكر مهما بلغ من التعالي لا يمكن أن يفرزه غير نمط معين من العلاقات الاجتماعية التابعة لنمط معين من الانتاج
ان أي فكر مهما كان محتواه بدءا بالشعر وصولا الى الفيزياء لا يمكن أن يكون بريئا أو محايدا
من هذا المنظار يمكن القول ان من المجلات ما يخدم مصالح 5 في المائة من الناس ومنها ما يطمح الى تغيير وضع أغلب الطبقات الاجتماعية
فكيف نصنف عندئذ مجلة كمجلة الفكر  ؟
اننا نرفض كل ما يتصل باللغة الخرافية والسحرية والأسطورية التي تجعل من الأديب ـ حامل رسالة ـ و نبيا مجهولا ـ وشبه كاهن يطمح للتفرد بطريق تضخم فردي متأله لأن ذلك يتعارض وصفة الأديب  الحقيقية بوصفه فردا اجتماعيا يمارس وظيفة انتاجية ان كانت تتميز بالخصوصية فهي لا تفضل صفة أي كان من الوظائف الاجتماعية الأخرى خاصة في عصر يتجه نحو حضارة عقلية جديدة ولا يخلو عندئذ عمل الطبيب أو الأثري أو المنقب عن الثروات في أعماق البحار من خصوصية فنية.
كما أننا لن نركب بالطبع للاجابة عن ذلك مفهوما سطحيا للفكر ولانسانية الأدب وتعاليه على الطبقات وحياده السياسي لا مثل هذا المفهوم هو الذي يركبه الكتاب الحزبيون الدستوريون عندما يدعون الى ضرورة عدم تسييس الأدب بغية التخفي وراء "قيم انسانية" فضفاضة.
عندما يدعون امكانية وجود ـ قطوس يصطا لربي ـ في وقت اتضح فيه لكل ذي عينين أن هناك  مجلات معارضة تخرج المساجين السياسيين والمتظاهرين ومجلة  "فكر" تخرج سواق القاطرات البخارية الثقافية
عندما يتخفون وراء "نزعة أدبية انسانية"  لا يشبهها سياسيا الا محاولة الخطاب الرسمي السياسي اعتماد شعار "الوحدة الوطنية"  تعتيما على التنافس الطبقي في البلاد كأنه في امكانهم أن يحققوا وحدة هذا البلد الطبقية الفكرية فانتقلوا تبعا لذلك الى الحديث عن وحدة العالم الفكرية "والاقتصادية بالطبع"
انه الفكر المجنح كالملائكة التي لم نرها في يوم من الأيام
في حين لا يمر يوم لا نرى فيه قصور رموزهم
لا نرى فيه تجارتهم حتى بالصوف وبالأغنام  وما شابهها بعيدا عن كل شاعرية
ان أدبهم هذا  لو استمعت اليهم قرأه كل التونسيين ويتذوقونه كذلك في "وحدة صماء" بدءا ببوش الى برج الخضراء ويتهافتون عليه
ماما كجريدة العمل
والدليل:  أليست مجلاتهم دائما على قيد الحياة ؟
كالنظام تماما.
وبعد ذلك لم كل هذا الكلام للإقناع بما نريد ؟
انه من السهل أن نقرأ لبعض رموز هذه المجلات ولن نجد أثرا للربط بين الأدب والصف الطويل أمام مركز الصكوك البريدية بداية من الخامس عشر من كل شهر
لقد تجاوز السادة المفكرون مثل هذه المستويات
أليسوا يدعون الى فكر فوق الطبقات
فوق الجرايات الشهرية
فوق المشاكل "الوسخية الدنيوية" ؟
وبعد ذلك فصفوة ما كتب رموز هذه المجلات يمكن أن يختزله المواطن القارئ في ما يعيشه في كل مرة يزاوج فيها أحد رموزهم بين النشاط الفكري والنشاط السياسي
هذه المزاوجة وحدها حرية بأن تظهر حقيقة مثل هذا الفكر لأنها المحك المعيار لكل جدل قد لا ينتهي حول مسألة أسباب
حياة موت المجلات الفكرية في بلادنا.