الطريق الجديد ،30 نوفمبر  1985
قراءات في سطور المدينة ، محمد الناصر النفزاوي

في السجن والسجون

تعودنا صغارا أن نفهم السجن ـ وصمة عار ـ
عودنا العرف الاجتماعي على أن نفرق بين صفتي ـ فار حبس ـ و ـ سجين سياسي ـ
كان لا بد في نظر المؤسسة التربوية من التفريق بين الحالتين
لأن قيمة الأشياء ليست في ذاتها وانما في الغاية منها
قيمة العلم مثلا ليست في ذاته فقد يكون وسيلة دمار وقد يوظف توظيفا خيرا

 

قيمة الذكاء مثلا ليست في ذاته فقد يوظف الذكاء لغايات متناقضة

 

قيمة السلطة كذلك ليست في ذاتها بل في الغاية منها فقد توظف السلطة لاشباع رغبات مرضية فردية  وقد توظف قبليا وقد توظف جهويا وقع توظف مجتمعيا أو انسانيا
هذه هي الثقافة المثالية التي صاغتنا
ثقافة مرتبطة بما يجب أن يكون أكثر مما هي مرتبطة بما هو كائن
لذلك كرهنا الى حد الغثيان كلمات الخضوع الاستسلام والتهميش والنرجسية والشخصانية والمتاجرة بكل شيء خدمة لأغراض أنانية صرفة
ولذلك زكينا صغارا وتلاميذ ثانويات اقامة النصب لكل من مات من المناضلين واقفا
كان معيار فرزنا لأي غاية كان الموت ولأي سبب كان السجن ؟
لم نفهم من سجن المناضلين السياسيين والاجتماعيين أنهم كانوا ـ فئران حبس ـ
عوض أن نلفظهم كسجناء لفظنا من سجنهم وبصقنا عاطفيا على من لم يفهم منطق التاريخ
بعبارة واحدة كنا نفرق بين السجين والسجين لا من خلال حادثة السجن ولكن من خلال الغاية التي سجن من أجلها
بل صرنا نفاضل بين هذا السجين وذاك انطلاقا من عدد
الأيام و الشهور والسنين التي قضاها في السجن
كنا شعبا أقل ثقافة وأقل وعيا سياسيا وأقل ثروة مما نحن عليه الآن  ولكننا كنا شعبا أكثر أخلاقية
كنا نعيش زمن ـ الجياد الأصيلة ـ
رغم كل النقائص
وصلنا الى حد البحث عمن صفع استعماريا في مقهى لأسباب متهافتة لكي ننصبه على رأس مؤسسة من المؤسسات..ولو كان يمضي على الأوراق ببصمة اصبع من أصابع رجليه
كنا أطفالا وكنا  تلاميذ عصر ولى
من دون رجعة
ثم كبرنا وتغير كل شيء
تغيرت المفاهيم كذلك
بدأنا نشك في ثقافة جيل كامل كلما فتحنا صحيفة من الصحف
لن نتحدث عن أحداث قفصة ولا عن قتلى العجين و الخميرة
نتحدث عن اللحظة الراهنة
نقابيون من المهدية من مختلف القطاعات يحكم عليهم بالسجن ثمانية عشر شهرا بسبب توزيع  منشور صادر عن المنظمة الوطنية الشغيلة التونسية
كاتب عام لاتحاد جهوي يحكم عليه بالسجن لمدة ثلاثة أشهرلأنه قام بتوزيع كلمة من أعضاء مجلس الأمة التونسي على  أفراد من الأمة التونسية
حتى لا نتحدث عن التونسيين الذين سجنوا السنوات الطويلة لأسباب سياسية بحتة
حتى لا نتحدث عما ينتظر غيرهم في المستقبل القريب من محاكمات وسجون
مهلا مهلا
الى أين نحن ذاهبون ؟
وهل في امكان واحد في السلطة أن يقنعني ويقنع كل الناس الذين يتساْءلون مثلي بأن ما حدث انما يصدر عن قدر أدنى من الوعي السياسي  ؟
انني أود أن أقرأ بحثا عن المساجين السياسيين  التونسيين
زمن  الاستقلال
عن عدد هؤلاء المساجين
عن عدد السنين والشهور والأيام التي قضوها في السجون
عما لحق عائلاتهم وعما لحق الوطن من مضاعفات لن تمحى
عمن سجنهم خاصة وعن الغاية الحقيقية من سجنهم حتى يتحمل كل واحد مسؤوليته أمام التاريخ
اننا نتساءل ان كان قد بقي للجريمة معنى
ان كان قد بقي للفرد قيمة في هذه البلاد
وما الذي يجب أن نربي عليه أبناءنا في المستقبل ؟
هل نقول لهم ان كل ما يروى لكم عن المثل انما هو وهم وبرق خلب ؟
هل نقول  لهم ان الحقيقة الحقة والمفتاح لكل شيء انما هو حقيقة الغابة الاجتماعية ؟
أن القانون ليس غير مطية يصنعها من لا تطبق عليهم القوانين ؟
أن الأخلاق والايمان بالمثل انما هي ـ ملاذ ـ العاجز ؟    وأن الشاعر القديم نطق بحكمة أزلية عندما أكد              
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
وأن هذه الحكمة  تنطبق على الأفراد
تنطبق على الجهات 
تنطبق على الأحزاب
تنطبق على الطبقات الاجتماعية
رغم أن هذا الشاعر وجد قبل عصر الدولة فغلب لذلك حقيقة
ـ السيف ـ على ـ حقيقة الشريعة ـ
ان ما يخشاه الكثيرون في البلاد هو أن تكون مثل هذه الحكم هي التي يدفع النظام الحاكم الناس ان شعوريا أو لا شعوريا
الى اعتمادها بدل القانون والمؤسسات حديثة الولادة
ذلك أنه اذا كانت هناك دولة
واذا كان هناك دستور حقا
واذا كانت هناك سياسة بالمعنى الحديث للكلمة  ـ لا نؤمن بالرعاة على اختلاف معاني الكلمة ولا نؤمن بالرعايا نهاية القرن العشرين ـ فكيف يمكن أن نفسر دوس السلطة  مفاهيم الدولة والمؤسسات  الى هذا الحد في بلد صغير ضمان سلامته الوحيد استغلال مكثف لكل طاقاته الحية ؟
ان ما نشهده حاليا من ممارسات سلطوية في البلاد يجب أن يقود الى اعادة النظر في ما ذهب اليه البعض من أن الحزب الدستوري قام في  بداياته على أساس رؤية متغربة وعقلانية للأشياء
ان الرؤية الغربية لا تتفق في أي وجه من وجوه الحياة والرؤية  القبلية  التي بنى عليها الحزب الدستوري ماضيه وحاضره وما يمكن أن يكون  ـ مستقبله ـ 
وما نراه اليوم يدل على أن النمط الشرقي والقبلي قد غلب التطبع وأن البطاقة السياحية التصديرية ان كانت قد أقنعت البعض  سابقا بامكانية تطور نظرة  هذا الحزب الى الأمور فانها قد أصبحت اليوم عاجزة عن تقنع حتى عامة الناس غير المهتمين بقضايا  السياسة أن هذا الحزب يمكن أن يتجاوز مصالحه الضيقة الى مصالح كل الطبقات الاجتماعية  في البلاد .