الطريق الجديد ، 4 جانفي 1986
قراءات في سطور المدينة ، محمد الناصر النفزاوي

في الأحزاب السياسية

عندما نتحدث عن الأحزاب السياسية  يجب أن نتذكر قفصة و 3 جانفي وتفكيك الاتحاد وصندوق النقد الدولي وحرب مراكز القوى وحمام الشط  والشارع المغبر والجائع و الاشاعات الكثيرة الأخيرة.
ان المطلوب من الأحزاب أن تقوم  بدور ـ الكوكب ـ وأن تؤطر جزءا من الغضب اللشعبي وتعدد  ـ قنوات  ـ السيل حتى لا يصبح طوفانيا لذلك نرى الحزب الحاكم اليوم ـ وهو واحد من أحزاب عديدة في البلاد ـ يعيد الكرة فيعمد ـ عن طواعية ـ  كما يقول الى عرض قانون جديد  حول الأحزاب السياسية  يحدد ـ وهو الحزب  من ضمن عدة أحزاب تمثل اللتونسيين شروط قيامها وبرامج عملها وحتى ما يجب أن تتوخاه من سياسة داخلية.
  انه  ـ المجبر ـ عندما يود أن يظهر ـ بطلا ـ ومع ذلك فان هذه ـ الأريحية ـ السلطوية تبدو لنا نتيجة تخطيط سبق أن لمحنا له سابقا ونود التركيز عليه  لأنه يهدف الى الحد من نزيف السلطة الحاكمة أكثر مما يهدف الى صياغة ملامح مجتمع  سياسي جديد وذلك لأسباب متعددة منها :

أولا

أن السياسة  الحزبية الدستورية قد كشفت عن كل أوراقها وهي لا تعدو أن تكون تونسة للتيار الاقتصادي المحافظ الذي يجد أشهر ممثليه  في تاتشر الأنكليزية المحافظة وفي ريقن الأمريكي . ومن  يتتبع النهج الاقتصادي في هذه البلدان يصدمه التطابق التطابق بين التطبيقات هناك التطبيقات هنا ـ رغم الاختلاف الحضاري  ورغم تباعد وضع جون  ومرقيريت عن وضع  بلقاسم وفاطمة ولكنها النظريات المستوردة تفعل في خلق الله ما تشاء ـ  سواء على مستوى التفريط في القطاعات الاجتماعية الصحة والتعليم والثقافة أو على مستوى  ضرب النقابات وتهمييش دور قوى العمل السياسي . وحتى يكون هذا التطابق كليا فلا بد عندئذ أن يمتد الى المستوى السياسي  وذلك بالسماح بوجود أحزاب سياسية معارضة  ـ كسيرة الجناح ـ

ثانيا

لقد تفطن النظام الحاكم ـ يساعده في ذلك ممارسته السلطة وتتبع ما يقع في البلاد ذات التوجه الاقتصادي المماثل ومساعدة تنظيرية مختلفة المصادرـ الى أن وضع اليوم لا يشبه في شيء الوضع الذي حف بأحداث بأحداث 26 جانفي 1978 وهو أمر  لا نظن أن الكثيرين تفطنوا اليه في الابان.

فأحداث 26 جانفي لم تكن الا صداما بين السلطة ومنظمة شغيلة بدأت تتلمس طريق استقلالية  عن  النظام. أما أحداث اليوم فهي تعبر عن نهاية مسار وتمثل تغيرا  كيفيا هو أقرب الى مسار التفتت منه الى مسار آخر يمكن أن  يفضي الى  اعادة  صياغة موازين قوى جديدة بين هذه المنظمة  وبين الحزب الحاكم اضافة  الى أن الحزب الحاكم كان دوما يشك في صلابة مفهوم  ـ  العامل بالفكر والساعد ـ  خاصة بعد ما تبدى من خلال المناقشات الحادة في صلب الاتحاد يوم كثر الحديث عن تحويل الاتحاد الى حزب عمالي ولذلك فان السلطة الحاكمة وهي ـ تبادر ـ بتقديم قانون الأحزاب السياسية تأمل أن يتحول جزء كبير من المنظرين السياسيين في الاتحاد ومن الرموز ـ السياسيين من دون بطاقة انخراط ضمن حزب من الأحزاب ـ الى العمل السياسي فيقع كسر في هذه المنظمة بمنعها مستقبلا من امكانية  التلاقح الايديولوجي فيسهل تحويلها الى منظمة أحادية البعد يسهل توجيهها.

ثالثا

ان تجربة  الأحزاب السياسية على الساحة طمأنت النظام الحاكم الى حد بعيد فأغلب هذه الأحزاب ـ رغم أنها لم تعد ترى  أن بلوغ الاشتراكية يمكن أن يتحقق حاليا على الطريقة الكلاسيكية وانطلاقا من صدامات حادة ورغم أنها تتبنى الديمقراطية كشرط ضروري لكل تصور اشتراكي متطور ـ  الا أنها على مستوى الواقع لا تسلك لبلوغ هذه الغايات ما تمليه المرحلة من وجوب التكتل انطلاقا من أرضية مشتركة تعتمد برنامجا بديلا يمثل حدا أدنى  ويمكن أن تحتل فيه القضايا الأساسية التي تشغل البلاد مدار العمل الحزبي اليساري في هذه المرحلة الصعبة.
ان مثل هذا  التكتل وحده  كفيل بتقوية ـ جبهة  الأحزاب السياسية  اليسارية ـ المعارضة التي سوف تبقى ان  لم يتحقق ذلك  عرضة للامتحانات والاعتداءات والضائقة المالية التي تتسبب الى حد كبير في ـ قتل ـ  جرائدها ومنشوراتها...الخ
وخير دليل على ما نقول هو ما يحاول الحزب الحاكم حاليا بناء على ما يعرف من  تشتت  المعارضة  اغراق الساحة بأحزاب نحن نعرف من الآن أنه سوف يستثني منها كل حزب ترى السلطة أنه قادر على التأثير في الساحة السياسية.
غير أن السلطة  لا تتحمل وحدها مسؤولية  الوضع السياسي فهي لا تعدو أن تستغل ما  في امكانها استغلاله مما ذكرنا من نقائص في المعارضة. لكن كثيرا من المنتمين لليسار يتحملون مسؤولية ذلك لموقفهم السياسي اللامنتمي  لهذا الحزب أو ذاك. واذا كانت دعوى البعض أنه لا يوجد حزب سياسي يمكن أن ينتمي اليه لغلبة النواقص عليه أو لقصوره عن بلوغ ـ ما يجب أن يكون ـ عليه حزب من الأحزاب فان مثل هذه الدعوى لا تخدم في الوقت الراهن غير الحزب الحاكم الذي سوف يبقى رغم ضعفه  ـ أسدا ـ على كل حزب سياسي لا يدعمه عشرات الآلاف من المنخرطين.

كما أن هذه الدعوى لا تأخذ في اعتبارها  أن كل حزب انما هو في النهاية هيكل يجب أن يكون قابلا  للتطوير وقادرا على الاضافات النظرية انطلاقا من أرضية خاصة فلا المراجع السياسية والاقتصادية ولا الاقتداء بالرموز الانسانية السياسية الخارجية يكفيان وحدهما لتحقيق مطمح أي حزب من الأحزاب أي النفاذ الى الجماهير الواسعة. ومثل هذا التطوير لا نتصوره ممكنا ان بقي أغلب اليساريين خارج ميدان الممارسة  الحزبية  وذلك هو واقع اليوم فنحن لا نرى أن أغلب الأحزاب في البلاد سواء الحزب الحاكم أو الأحزاب  المعارضة  تمكنت الى حد اليوم من بلورة تصورات متكاملة للحلول التي يمكن أن تمثل بديلا لما نعيش من أزمات.
ان هذا العصر هو عصر تحولات كيفية يشبهها البعض بالتحولات التي عرفتها الانسانية زمن الثورة الصناعية  الأولى والمطلوب هو أن نتجاوز التنظير الما بعدي ومجرد ردود الفعل على الأمر الواقع. مثل هذا المطلب لا نظن أن في امكان اليسار أن يحققه ان بقي  اما مشتتا واما غير متحزب. وهنا يتجاوز مفهومنا لليسار بعض التنظيمات التي تتشبث  بصفوية ايديولوجية لا تدل في نهاية الأمر الا عن عجز عن التنظير الذاتي بل بعني به كل قوى  التقدم سواء كانت شيوعية أو اشتراكية   سواء كانت منتظمة  في أحزاب سياسية أو في شكل منظمات ذات صبغة اجتماعية  أو انسانية أو ثقافية... كما نعني به اليسار في المغرب العربي كله الذي بجب العمل على توثيق الصلة به اذ لا نتصور مستقبلا شماليا افريقيا الا اذا كان انطلاقا من برنامج موحد أو متقارب تصوغه كل  التكتلات اليسارية في  بلدان المغرب العربي.
انه لا يكفي في هذا العصر أن يتجمع اليسار حول مطالب عمومية من مثل مطالبة الحزب الحاكم بمراجعة الاختيارات الاقتصادية... الخ وهو شعار عام وفضفاض لا يمكن أن يجمع حقيقة بين مختلف التيارات بل يجب  بذل مجهود تنظيري لطرح بدائل في مسائل دقيقة ان كانت تدخل ضمن هذا الشعار فهي تضفي عليه وضوحا يفتقر اليه الى حد اليوم.
فملخص القول عندئذ هو أن القمع لا يمكن أن يبرره  الا ضعف  من يتعرض للقمع وأن كل تضخم في صفوف الأحزاب  السياسية يدفع السلطة  الى الاقتناع  نهائيا بأن قوة المعارضة أفضل  ألف مرة من قوة الشارع أو من قوة كثير من العصي المستترة حاليا والتي قد يعينها موقف اليسار اللامنتمي على الظهور في أمد لا نظنه الا قريبا.