الطريق الجديد، 11 جانفي 1986
قراأت في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

في السرطان السياسي

عندما نتحدث عن هذه الأرض يجب أن نتذكر نظرية المجموعات في الرياضيات بل يكفي أن نشاهد خريطة بلادنا أثناء نشرة  الأحوال الجوية وأن نقارن بين مساحتها وبقية البلدان.
تكفي بلدان شمال افريقيا للمقارنة.
سيصدمنا منذ البداية شعور بمدى خفة وزن هذه الأرض جغرافيا مقارنة بكيانات جغرافية أخرى... ولا يحدثنا  أحد عن تعويض حضاري  موهوم فنحن نعرف أنها أكثر تقدما من بعض بلدان افريقيا  السوداء ولكنها أيضا أثبتت سياسيا عجزها سنة 1986 عن تطبيق ما دعا اليه خير الدين منذ منتصف القرن التاسع عشر.
بكلمة واحدة هي أرض تتعرض لعمليات جذب قوية ومختلفة المصادر شماليا افريقيا   وعربيا  واسلاميا وعالميا.
يريدها البعض  شمال أفريقية
يريدها البعض  عربية
يريدها البعض اسلامية

يريدها الحزب الحاكم سكرا ذائبا ضمن العالم الرأسمالي بتأثير ـ نور قذفه الرأسمال الخاص في القلب ـ

 

فكيف يمكن لبلد بحجم  يلدنا أن لا يتفرقع نتيجة قوى الجذب هذه ؟
انه اذا كان يستحيل على البلد أن لا يتعرض لهذه الضغوط فانه يمكنه أن يخفف منها اذا تمكن من تحديد نقاط ارتكاز قوية ووسطية تسمح  بتماسك  أجزائه  بدأ بببوش مرورا بساقية سيدي يوسف وصولا الى برج الخضراء.
ولا نتحدث كما ترون عن مناطق الشريط الساحلي وعن حاملات الطائرات متعددة الجنسية التي تربض على بعد أميال من المياه الاقليمية التونسية بما تحمل من ـ تكنولوجيا ـ  ومن خرائط رسمت عليها ـ مناطق سيادة الدول الصغيرة ـ في شكل قطع شطرنج يزجي بها الجنرالات أوقات عملهم .
لنتفق  على هذا المبدا قبل كل شيء
قبل وحدة الشمال الافريقي
قبل وحدة العالم  العربي
قبل الوحدة الاسلامية
قبل الوحدة الشيوعية
وقبل استيراد نظريات الذوبان   في العالم الرأسمالي التي يتبناها الحزب الحاكم.

 

لنبدأ بمعاينة واقع هذه الأرض  والبحث  في نقاط ارتكازها  . لقد تسبب النظام الحاكم منذ ثلث قرن في اختلال بين أعضاء الجسد  الجغرافي والسياسي والاجتماعي التونسي فنتج عن ذلك تضخم في بعض المناطق وشلل في مناطق أخرى بالبلاد تمثل أغلب مناطق هذا الجسد.
ومن يعد الى الخارطة  التونسية سوف يتأكد  ـ طبيا ـ  أن الجنوب  والوسط الغربي والشمال الغربي خصوصا هي أعضاء قد لحقها من الضمور ما يسمح بالقول انها مناطق مشلولة لم يعد في الامكان اعادة الصحة اليها  بما نشهد من ـ حرابش ـ حزبية دستورية.
أمراض بقية المناطق الأخرى متنوعة ومتفاوتة الخطورة.
وما ينطبق على المناطق ينطبق على الطبقات.
ينطبق على الوظائف الاجتماعية والثقافية والسياسية.

انها حالات السرطان الاجتماعي عندما تتكاثر الخلايا الدعية وغير النشيطة فعليا فتمنع بتضخم  استهلاكها لهواء وغذاء الخلايا الحية نمو هذه الخلايا وازدهارها.
فهل يتصور المرء والحالة هذه أن يكون للجسد الاجتماعي من الحصانة ما يمكنه من الصمود ازاء أية هبة ريح قوية أو ازاء سيل جارف ؟
ان من يحاور أغلب الخلايا الاجتماعية الحية والعاملة يلاحظ  نقص  ما تتمتع به من هواء ومن غذاء.
والغريب أن العمل الرسمي حاليا يلهث عبثا وعبثا نحو اجتثاث ما تبقى من ـ الرئة ـ التي تتنفس بطريقها القوى العاملة.
ان من يحاور أغلب الخلايا الشابة سواء  في الثانوي أو الجامعة أو في الشارع  المهمش يحس  بأن التورم السرطاني الذي لحق الجسد الاجتماعي بدأ يلفظها  خارج الجسد ، بدأ  يقتطعها. لذلك عم الاحباط الخطير  وعم اللهب الكامن.
بدأت كل الخلايا أخيرا  توجه أصابع الاتهام  نحو المناطق السرطانية فاذا هي تورمات صغيرة ونهمة وشرسة تتناثر هنا وهناك فوق الجلد الاجتماعي في شكل  بقع سياسية ومالية وثقافية يشبه لونها لون العلق المستأصل
بدأ يترسخ في النهاية اقتناع جماعي بأن تضخم الأفراد والجهات ان كان لا بد منه فيجب أن يتم في نطاق علاقة عضوية بنمو وازدهار بقية الأفراد والمناطق.

لا حق للخلايا السرطانية  أن تتسبب في شل نمو بقية خلايا الجسد الاجتماعي.

ان الجسد الاجتماعي  واحد بدأ بأصابع القدم مرورا بالشرايين وصولا الى الدماغ.
لا يمكن  بعد الآن السماح  لمعدة  هرأتها  عادات غذائية   تجاوزها   زمن الوعي الغذائي الجماعي أن تلحق الضرر ببقية  الخلايا من دون أن تتعرض لعملية جراحية وذلك مهما بالغت في استعمال طرق التجشؤ ـ التقريع ـ الايديولوجي الرأسمالي.

انه الصراع بين الصحة والمرض
وهو الصراع بين الشباب والشيخوخة هو الصراع بين الحياة والموت
ولقد كنا دوما في ما يخصنا شديدي الايمان بأن الحياة بمختلف وجوهها سوف تكون أقوى من الموت.