الطريق الجديد، 1986
قراءات في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

عندما يملك العبيد العبيد ..

لا أدري  كيف احتفظت ذاكرتي  منذ مدة طويلة بمشهد  لشارلو من ضمن قصة كاملة لم أعد أذكر شيئا منها
هذا المشهد يظهر شارلو  النحيف النحيل الشاكي الباكي يتعرّض لصلف خصم قوي يهينه شكلا ويهينه مضمونا
كان يمكن لشارلو أن يخرج باقتناع بسيط يفهمه حتى الأطفال مفاده أن القويّ ، طبيعة وعندما تضمر المكتسبات الثقافية  الانسانية،
لا بدّ آكل  الضعيف ملتهمه راكبه شاربه ومتقيئه
الاّ أن بطلنا ثريّ المفاجآت تجاوز هذا الاقتناع فنظر فنظر حواليه  مدّة فاذا بشيخ مكدّس أمامه يطلب العون ، بل يستغيث.
توجه نحوه شارلو

 

ركله

أنهضه قسرا
حاول تقويمه ..ثمّ حمّله وزر ما كلّفه الخصم القويّ حمله
بهذا   تنفّس شارلو ونفّس أيضا عن نفسه
بهذا تأكد احساس شارلو بضرورة تعدد المواقع الطبقيّة وبذلك خيّل له أنه خرج من الانسحاق : أليس يوجد من هو أحطّ منه وضعا ؟
ـ انظر للي تحتك ، ما تنظرش للي فوقك ـ
ان قصة شارلو هذه قديمة في الحقيقة قدم الزمان .
تجدها في علاقة الدول القوية بالدول الضعيفة
تجدها في علاقة الطبقات السائدة بالطبقات المسودة
تجدها في علاقة الأفراد الأقوياء بالأفراد الضعفاء
في علاقة الرجل بالمرأة
في علاقة المدرّس بالتلميذ
في كلّ هرميّة قوامهالاستغلال
لذلك ظهرت الأديان
لذلك ظهرت الاشتراكية العلمية
لذلك ظهرت الأفكار المشتنيرة بغية صياغة انسان جديد تهذّب المكتسبات الأخلاقيّة الغرائز فيه
يذكّرني بكل هذا ما أسمعه من خطب المديرين السياسيين عندنا وهم يرجعون المآزق التي يوقعون البلاد فيها في كل مرّة لا الى عجز تصوّري للحلول ولا الى تهاتت السياسة التي يعتمدون وانما الى المصاعب الخارجية والفوقيّة والدولية ، اكاد أقول ، الميتافيزيفية ،
ـ أصابت تونس عين ـ
كأنهم يودّون أن يقولوا للناس :
اننا باعتبارنا سلطة وأنتم باعتباركم محكومين ضحايا وضع تسبّبت فيه بلدان الشمال الغربية
لقد جوّعتنا بلدان الشمال سلطة ومحكومين لذلك لا فرق بين نساء ـ الكيوانيس كلوب ـ ونساء عمال باجة المضربين عن الطعام والذين
عملوا السنين الطوال بمرتب 10 دينارات ..شهريا
لقد شردتنا أيضا بلدان الشمال الغربية سلطة ومحكومين لذلك لا فرق بين يسكن منا قصرا يصل ثمن تشييده المليار لما يحتوي عليه من أحواض سباحة وحمامات وسكان تجمع سكني يعدّ آلافا من المواطنين لم يبلغ ثمن بنائه  بعض الملايين اذ قد عهد ببنائه الى تلاميذ
المؤسسات المهنية يجربون فيه  خطاهم الأولى
عرّتنا أيضا بلدان الشمال الغربية سلطة ومحكومين لذلك لا فرق بين من يلبس من ـ روبافيكا ـ الحفصية بل من يلبس من المزابل ومن يلبس آخر ما صدر من محلاّت الموضة الباريسية
كأنهم يودون  أن يقولوا للناس :
لو كان هناك نظام اقتصادي عالمي جديد لما وجدت فروق بين السواحل عندنا و الدواخل
لو مرّر لنا الغرب أسرار تقنيته لما  صاح  العرف في العمال التونسيين المضربين  ـ  تجوعوا وترجعوا ـ
لولا ارتفاع قيمة الدولار لما كان وراء افلاس مؤسسة قومية ـ مفيوزو ـ محلّي وأموال مهربة
يكادون أن يغرسوا في أذهان الناس أن بلدان الشمال في الشمال كما أن بلدان الجنوب جنوب الكرة الأرضيّة
الكذب ـ الجملة ـ لا ـ التفصيل ـ
يخافون أن يدقّق ـ المعذّبون  في الأرض ـ النظر فيروا أن في كل بلد جنوب بلد شمال
في كل بلد جنوب تقسيم عمل يذكر بالعصرالاقطاعي
طبقة وظيفتها تزييف التاريخ واالحكم غارقة في التخمة
وطبقة  عاملة أو بطّالة مهمشة تغتالها الخصاصة
في كل بلد جنوب مناطق رفاه فاحش ومناطق  بؤس لا يمكن أن يصفه قلم
في كل بلد جنوب أنماط ثقافية وغذائية و..بعدد الطبقات الاجتماعية
في كل بلد جنوب توجد فرنسا و أمريكا وما بينهما لصيقة بالساحل الأفريقي ، واقعين متزاوجين  ، هجينين ، ملوّنين
يخافون أن يكتشف ـ المعذبون في الأرض ـ  أن لا حــــقّ للعبيد أن يستعبدوا العبيد
انها قصة شارلو المتقدمة وهو يلطم نصفه الشيخ المكـدّس
انه التداخل الأكبر
لذلك لا حـــقّ لأي كان أن يتهم بلدان الشمال البعيدة باستغلال بلدان الجنوب المتخلفة اذا كان في كل بلد جنوب طبقة أشدّ استغلالا للعاملين.