الطريق الجديد
قراءات في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

 

" ان صرت أقلّية فلا نـــزل القطـــر " ـ ج 2

ـــــــــــــ

فيما يلي ننشر القسم الثاني من مقال الأستاذ النفزاوي الذي كنا نشرنا الجزء الأول منه في الأسبوع الما ضي.

ــــــــــــ

وسائل الحزب الحاكم غير المادية للابقاء على السلطة

 

استغلّ الحزب الدستوري فترة سيطرته  على البلاد كي يجعل من الادارة التي لا بدّ ، ضمانا لاستقرار البلاد ، أن تبقى فوق الأحزاب ، ادارة حزبية اشتراكية دستورية يخضع توزيع المناصب فيها لا الى مقاييس علمية مهنية بل لاعتبارات جهوية وحزبية دستورية .فرؤساء المؤسسات العمومية بدءا بالرؤساء المديرين العامين وانتهاء برؤساء البلديات ومن شابههم ينصّبهم الحزب الدستوري في حين تسيطر الاتجاهات السياسية المعارضة في أوساط الموظفين والعاملين.

ومثل هذا الأمر الواقع المحزن يمثّل خطرا على استقلال الادارة وعلى استقرار البلاد.

وتظهر خطورة هذا التحزيب الدستوري خاصة في مجال سيطرة الحزب الحاكم على مؤسسات الاعلام وعلى مستوى التعليم.

ففي هذا المجال بالذات يظهر السطو الايديولوجي الدستوري على عقول ملايين التونسيين كبارا وتلاميذ قبل أن يبلغوا

النضج العقلي الذي يمكّنهم من اكتساب الحصانة الضرورية ضد أي فكر متهافت أو خرافي.

وما مروق التلاميذ حال تخطيهم أعتاب المرحلة الأولى من الثانوي عن ايديولوجيا السلطة الحاكمة الا دليل واضح على عجزالايديولوجيا الدستورية عن محاصرة الفكر الآخر، العقلاني ونقيضه.كما أن قرف الفئات العريضة من كل منتوجات اذاعة النظام وتلفزته يعتبر مؤشرا على تخشّب هذه الوسائل الاعلامية وتخثرها خاصة بعد أن تعدّدت قنوات الحصول على الاعلام.ومن المنتظر  أن يرافق توسيع بثّ التلفزة الايطالية الى مختلف مناطق البلاد ـ هذه التلفزة التي لا يحتكرها كما هي الحال عندنا حزب سياسي واحد ـ هجر أوسع لبرامج التلفزة الحزبية الدستورية خاصة في المناطق المحرومة التي كانت تعدّ  خزاّن الحزب الدستوري لنقص الوعي فيها على الأقل قبل انتفاضة جانفي 1984.

انه سوف لن يصبح  من الممكن في المستقبل أن تنتشر الأخبارفي بلدنا حول تهريب ثروات هائلة الى الخارج من دون أن  يطالب الشعب بمحاسبة أي حزب حاكم على ذلك في حين تتاح الفرصة لمشاهد تلفزات العالم المتحضر أن يتتبّع أنباء سقوط حكومات كاملة لأن أحد الوزراء هرّب بعض الملايين الى الخارج أوتهرب من دفع الضرائب.

ان قدسيّة السلطة أو ـ الحاكم ـ كما يسميها عامة الشعب التي عوّل عليها النظام لتغطية عجزه وتزييفه للآنتخابات واستعمال كل الضربات التحتية من دون محاسبة شعبية للحفاظ على مصالح أقلية سوف تزول بالتدريج وسوف يصبح شبه مستحيل أن يستغلّ كل أعرج سياسيا نقص وعي الشعب ليتحوّل بعصا سحرية خرافية الى ـ حكيم ـ

نعم. ان فترة ـ السلطة طريق نحو الاثراء ـ قد أشرفت على النهاية

 

وسائل القمع المادية

كل دولة هي في حاجة الى أمن داخليّ تضمنه الشرطة والى أمن خارجيّ يضمنه الجيش.ورجال الشرطة مواطنون كبقية المواطنين يعيشون بمرتّب يجعل منهم منتجين كبقيّة المنتجين.ومهمتهم الحفاظ على الأمن العام لا الحفاظ على مصالح حزب من الأحزاب قد تختلف عن مصالح بقيّة الشعب ومن ضمنه رجال الشرطة.

كذلك هو شأن الجيش الذي تتمثّل وظيفته في حماية الأمة من أي خطر ..خارجيّ.

أماّ اذا تحوّل دور الشرطة من دور عام الى دور خاصّ فان هذه الفئة من الشعب تتحوّل الى مايشبه اليد التي تطعن بقيّة الجسم وكأنها ليست منه

تتحوّل  الى أداة في يد فئة من الشعب صغيرة تستعملها لضرب بقية الشعب

كما أن تحويل الجيش عن دوره الحمائي الحدودي الى أداة يستعملها حزب من الأحزاب لضرب فئات شعبية ضمن الوطن لا يمكن الاّ أن يدخل هذه المؤسسة  في مرحلة غموض وظيفيّ

فعلى هذه المؤسسات أن تبقى فوق  الأحزاب وفوق الصراعات السياسية الداخلية والا فان أي تغيير في نظام الحكم سوف يدفع بالبلادالى عملية تصفية حسابات لا أظنّ أن عاقلا ووطنيّا يمكن أن يتمناها

 

ان ممارسات  الحزب الحاكم طيلة حكمه اعتمدت التعتيم الايديولوجي وسيلة لقيادة أغلبية الشعب ووسائل القمع لترهيب المثقفين الذين كانوا سبّاقين الى الحدس بمصير السياسة الحزبية المتهافتة.وقد اعتمدت وسائل ا لقمع هذه مستويات مختلفة تدرّجت من تجويع عائلات المعارضين السياسيين بغاية اذابة طاقاتهم الرفضية الى السجن والتعذيب.

مثل هذه الممارسات كان يظنّ أنها خاصية الاستعماريين لذلك ارتسمت في ذاكرة الشعوب في صورة هستيريا جنونية من الضروري أن تحصّن الأجيال الجديدة ضدّها زيادة على أن مثل هذه الذكريات لا تزول بغير موت من عاشوا ويلاتها.

ويستفيق المواطنون  على أخبار يوميّة ،زمن الحكم الدستوري ، تعلن عن تعذيب هذا وسجن تلك..خمس سنوات وسنوات عشر..سجون تحت الأرض أيضا..توقيف عن العمل وتجويع للعائلات ونفي وتهجير ..

انه اذا كان البعض ممن عرفوا السجون زمن الاستعمار قد أقنعوا الناس باستحالة أن تمّحي ذكريات كهذه من الذاكرة فما بال المصالح الضيّقة تعمي بعض المسؤولين الحاكمين عن الاعتراف بأن استحالة النسيان هذه هي استحالة انسانية .. تنطبق على سجناء زمن ـ الاستقلال ـ أيضا

 

لكلّ ما ذكرنا لا بدّ من تحييد مؤسسات  الدولة عن الصراع السياسي حتّى لا يصبح الشعار الذي يظهر أن البعض في الحزب الدستوري قد تبناه تماما ـ ان أصبح الحزب الدستوري أقلية فلا نزل القطرـ  شعار كلّ التونسيين.