الطريق الجديد، 13 جانفـي 1988

قراءات في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

في الموادّ الزئبقــــيّـــــة

لا أعتقد أن مجتمعنا التونسي يحتاج في الوقت الراهن الى شيء قدر احتياجه الى أحزاب عديدة تعبّر بحقّ عن واقع التنضيد الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع. فالمجتمع التونسي متعدّد الطبقات وعلينا أن نختار بين أمرين :

امّا أن نواصل عهد التعامي المقصود أو الادعاء الأعمى بأنه يمكن لحزب من الأحزاب ـ أي رؤية من الرؤى ـ أن يعبّر بحقّ عن كلّ الساحة التونسيّة فيعمد الى لجم كلّ الأفواه المعارضة

وامّا أن نختار القطيعة الكاملة مع الماضي فنعمل على الخروج بالكتل الشعبيّة الضخمة من حالة الكــمّ الهامد سياسيّا الى حالة من التأطير السياسي والثقافي المتعدّد بما يسمح بظهور ـ تيبولوجيا ـ اجتماعية  واضحة يوافق فيها الوضع الطبقي واللون  الثقافي الانتماء الى هذا الحزب أو ذاك فلا يصبح من قبيل ـ البدع ـ أن ينخرط مواطن يتعلّق بالتراث الثقافي الاسلامي أكثر من غيره متعب اقتصاديا في الحزب الشيوعي مثلا لأنه المؤهل أكثر من غيره للدفاع عنه في عالم العلاقات الاجتماعية والاقتصادية الاستغلالية فيقع تجاوز مظاهر انعدام الوعي التي تدفع المعدم الى التصويت لصالح من يناقضه وضعا اجتماعيا الخ...ذلك أن الشكل التصنيفي الأمثل هو الذي يكون فيه هذا الحزب أو ذاك مجرّد طبقة مختزلة وتكون فيه الطبقة مجرّد حزب كثيف الأنصار.

هذا التصوّر ـ على ميكانيكيته ـ يفيدنا في تناول موضوعنا وهوالمستقلّون في تونس.

ولقد تكاثر  عدد هؤلاء حتى أصبحوا يمثّلون نقطة استفهام كبيرة لا يزن وزنها غير ضبابية في المواقف لا شكّ في أنها مقصودة بقدر ما هي صادرة عن فضفضة ما يعتمدون من ـ مواقف ـ

انني لم أصادف الى يوم الناس هذا واحدا من التونسيين يفهم الاستقلالية من دون أن يضفي عليها وعلى ممثّليها صبغة ـ تشكيكيّة ـ حتى لا أقول ـ استنكاريّة ـ خاصة عندما يبرّر هؤلاء ـ المستقلّون ـ انتماءاهم ـ ان كانت الاستقلالية انتماءا معيّنا  ـ على أنها نتيجة رؤية سياسيّة ـ تجاوزيّة ـ

انه التعالي الأقلاطوني بعينه في مجتمع غير منضّد سياسيّا بما فيه الكفاية

والحقيقة أن المسألة تمثّل  ظاهرة تجاوزت السياسة الى نشاطات أخرى كالأدب فلقد عشنا فترة تواترت فيها أصوات أدبيّة عديدة تنادي بعدم ـ أدلجة الأدب ـ وكأن الأدب نشاط يمارس خارج فضاء العلاقات الاجتماعيّة السائدة التي يمكن لأي كان أن يتبيّن تأثيرها الحاسم في صياغة الناس وذهنياتهم وحتّى ألفاظهم مثل ـ الأدلجة ـ و ـ التسييس ـ الخ
انه لا يمكن لانسان أن يشتري رطلا من البصل لا يكون ثمنه مثلا نتيج اختيارات سياسية وفلاحيّة كما أنه لا يمكن لانسان يدعو الى عدم تسييس الأدب مثلا أن لا يصدر في دعوته هذه عن رؤية وموقف سياسيين. فلم ادعاء الحياد حيث لا امكان للحياد في الحياة الاجتماعية ؟ ولم ادعاء الاستقلالية حيث لا امكان لأن يكون الانسان غير منحاز أظهر ذلك أم أخفاه ؟

اننا نعرف أن الأحزاب المعارضة تمثّل ـ وصمة ـ في جبين منخرطيها يأخذها الحزب الحاكم في الاعتبار عند توزيع ـ خيراته ـ على الاطارات ولذلك فانه يصبح من الصعب على الكثيرين أن يتأطّروا فيها لطموحاتهم الفرديّة بدليل أننا لا نرى حرج كبار الصناعيين أو التجّار أو من شابههم وهم ينخرطون ضمن الحزب ااحاكم الضامن لمصالحهم بل ان هؤلاء لا يفهمون حتى مجرّد الفهم كيف يمكن أن يوجد حزب شيوعّي مثلا أو حزب شعبيّ في بلد اسلاميّ ـ غير رأسماليّ ـ وبدليل أن كثيرين من حملة فكرة الاستقلاليّة ينتمون الى رهطين = رهط ـ مفرهد ـ أصبح يشكّ في امكان تواصل الحكم الدستوري بالاطلاق الذي كان عليه ورهط ـ تاعب ـ وطموح فرديا ما زال يعيش على حنين أن يصل كما وصل ـ معدومو الأمس ـ الى السلطة ، على اعتبار أن السلطة باب الثروة.

ان هذا في نظري هو السبب الأكثروضوحا في ظاهرة الاستقلاليّة ذلك أنني لا أفهم كيف يفضّل الكثيرون العمل خارج الأحزاب الموجودة أو الأحزاب ممكنة التأسيس بدعوى أن هذه الأحزاب استقفاصيّة ـ أو لا مستقبل لها في حين أنه لا يمكن تجاوز هذه الاستقفاصيّة أو ضعف الأحزاب من دون مساهمة هؤلاء داخل هذه الأحزاب الا اذا كان شرط التحزّب هو اكتمال الأحزاب وكأنّ الاكتمال يمكن أن تجود به السماء.