الطريق الجديد، 1988
قراءات في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

المثقفات  و الكلاب ( 1 )

 

في أقلّ من شهر تعرّضت مؤسّستان تربويتان في منطقتين مختلفتين بنية اقتصادية واجتماعية وعمرانية هما المرسى وحاجب العيون الى غزوة ليليّة غايتها الغزو والاغتصاب . والجامع بين الحالتين هو وجود فتيات في كل من  هذين المؤسّستين.

ان محاولات الاغتصاب التي تستهدف المرأة قديمة قدم العلاقة التضادديّة بين الرجل والمرأة  وقد اتخذت عبر العصور أشكالا مختلفة منها السبي ومنها تعدّد الزوجات والجواري ومنها شراء المرأة وبيعها ومنها تشييء المرأة صلحت للانجاب وحده أم استعملت مكمّلا تأثيثيا في القصور أو اشهارا للبضائع الاستهلاكية.

غير أن هذا الواقع التبعي للمرأة لا يجب أن يحجب عن أنظارنا خصوصية المجتمع الذي نحن جزء منه وأننا نلامس نهاية القرن العشرين وأن ما حدث في كلتي المدرستين قد اتخذ شكلا ينمّ عن استفاقة قيم ترقى الى عصور  موغلة في القدم لأنّه

ـ حدث ليلا

ـ أصبح ظاهرة

ـ حدث بشكل جماعيّ

ـ  لم يحدث في مبغى أو ماخور من الدرجة الأخيرة ولم يستهدف مومسات وانما حدث في مؤسّسات تابعة لوزارة التربية القوميّة واستهدف تلميذات أو معلّمات

ـ لم يسبّب ردّ فعل جديّ لا في مستوى السلطة ولا في المستوى الشعبي بل انه أصبح أحيانا موضوع نكات شعبية موضوعها ـ كيد النساء ـ على طريقة جواري ألف ليلة وليلة.

فما هي دلالة الحدث البعيدة عندئّذ ؟

سوف لن نقف عند  ما يمكن أن يقدّمه محضر للشرطة في ما يتّصل بالقضية اذ تقتصر مثل هذه المحاضر على الأحداث العينية فتربطها بمسبّبات شخصيّة أو بحالات سكر أو بانحراف بعض الشباب وسنحاول أن نرقى الى أسباب الأزمة العميقة ممثّلة في علاقة الرجل بالمرأة في  مرحلتين من مراحل تطوّر المجتمع التونسي خصوصا هما  المرحلة الزراعية وما يوافقها  من عائلة تقليدية والمرحلة الانتقالية الحالية وما يوافقها من عائلة تعيش مخاض قيم جديد من دون  أن نغفل دور السلطة السياسية الحاكمة في صياغة صورة للمرأة وللرجل تتميّز بالكثير من التناقض

المرأة الرجل في المجتمع التقليدي:

تظهر العائلة التقليدية هرميّة الشكل يحتلّ الأب فيها رأس الهرم  يليه الأخ  الأكبر (سيدي) وبقيّة الذكور في حين تتمركز الأم والبنات في قاعدة الهرم

ومكانة الأب هذه يفسّرها نمط الانتاج الذي أفرز العائلة التقليديّة والذي نزّل الأب منزلة (ربّ الدار) نظرا الى السلطات الاقتصاديّة والسياسية والمعنويّة التي كان يتمتّع بها

كما أن مكانة  كل من الذّكور الاناث تفسّر انطلاقا من أدوار كل من الجنسين ضمن المجتمع التقليدي . فاذا كان دور الابن خلافيّا فانّ دور الاناث لا يتعدى الانجاب (وانجاب الذكور خاصة) وتربية الأطفال والسهر على سيرالحياة الداخلية في البيت

ان هذه التركيبة مشروطة بعصر زراعيّ يتحدّد بالعمل في الأرض خاصة والاقتصار على بعض الأعمال

 الصناعية القريبة منها ولذلك فان هذه العائلة سوف تظهر كما سبق القول شديدة الهرمية والانضباط طالما لم تظهر مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية تبدأ  باحداث شرخ في بناء العائلة يزداد اتساعا بمرّ الأيام

لقد كانت العائلة التقليدية منطقيّة مع نفسها: كانت تهب كل الحظوظ للذكور نظرا الى دورهم القيادي وكانت تمنع النساء من   كل شيء حفاظا على دورهنّ القاعدي فلا  تعليم الا ما كان من بعض الآيات القرآنية ولا تكوين الا ما يتّصل بتخريجهنّ  ربات بيت ولا اختلاط الا ما يدخل ضمن العلاقات الدموية العائلة التقليدية. كانت أندوقامية كثيرة الخشية من الغرباء وكثيرا ما كانت البنت (تسمّى)لابن عمّها أو ابن خالها منذ الولادة.وتعوّد الصغيرات منذ نشأتهن على تمثّل فكرة التقابل بين المرة والرجل من ناحية وأفضليّة الرجال على النساء من ناحية ثانية ، ويوجد  في تراثنا أدب شعبيّ كامل يكرّس هذه القيم.

وتقاس قيمة المرأة العقليّة بمدى تمثّلها لهذا الاقتناع  من ناحية  ولمدى  امتيازها بعدد من الصفات الجسديّة  الضامنة لانجاب أطفال أصحّاء من ناحية ثانية

غير أن العائلة التقليدية التي وصفنا عددا من ملامحها لا تنفرد بهذه التركيبة فالسلطة السياسية الملائمة لنمط المجتمع التقليدي تعيش هرميّة مماثلة اذ ينعكس مفهوم (ربّ الدار) على مستوى التنظيم الاجتماعي فيتحوّل في مستوى رئاسة الهرم الذي  يحتلّه " الحاكم "  أو " السلطان "  أو "الباي" أو " الرئيس" الى " ربّ البلاد " ، قوّة كارريسماتية تنزل بكلكلها على مجموع "الرعيّة" فتحوّلها الى تابعين لا يشبه دورهم الا دور النساء في قاعدة هرم العائلة التقليديّة.

هذه الوضعيّة هي التي خلّفت  لنا مجموعة من الأقوال والأمثال من مثل / اللي خاف نجا / وأخواتها اذ كان  " الحاكم " شبيها بالأب التقليدي . وهو يطرد أيّ واحد من أفراد العائلة من " البيت الكبير" الذي يمتلكه ان نازعه السلطة السياسية أو الاقتصادية أو المعنوية المطلقة التي ينفرد  بها.كذلك كان السلطان يصادر أملاك من يشاء ، يسجن من يشاء ، يقتل من يشاء اذ لا حائل بين  الانسان الفرد وآلة السلطة القمعية

لكلّ هذه الأسباب سوف نشهد مجموعة من العوامل الداخلية والخارجية تتظافر لتفكيك بناء العائلة التقليدية من جهة والسلطة السياسية الموازية لها من جهة ثانية . وكلّها عوامل سوف ننطلق في تناولها من اقتناعنا بحتميّة التغيّر البطيء غير المرئيّ الذي تخضع  كل الكائنات ومنها الكائنات الاجتماعية والعائلة التقليدية بما انبنت عليه من نمط  علائقيّ مشروط بنمط حضاري أصبح محكوما عليه بأن يتّجه في مسار انحطاطيّ يفرغ نمط العلاقات من جزء من محتوياتها أي الجانب المعنوي خاصة فيحوّلها الى علاقات تسلّطيّة .

أما أما على مستوى السلطة السياسية في المجتمع فسيكون الوضع أشدّ خطرا نظرا الى استحالة انغلاق السلطة السياسية بالمستوى الذي يمكن للعائلة التقليدية أن تبلغه.