الطريق الجديد، 13 فيفري 1988

قراءات في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

في الاستعارة ودلالاتها…

 

ذكّرتني حملة الحفاظ على الأخلاق الحالية بقضيّة الأسباب والنتائج.

وهي قضيّة شائكة , فلئن اختلفت التحليلات الثقافية والاجتماعيّة في بيان أسبابها فقد اتفقت على أنها أصبحت من جهة تمثّل ظاهرة يمكن لأيّ كان أن يلمسها وعلى أنه لا يمكن من جهة أخرى محاربتها بمجرّد محاربة النتائج من دون التعرض لأسبابها العميقة.

ولو اقتصرنا على جانب واحد من هذه الظاهرة وهو ما يتعلّق بانحرافات الخطاب اليومي للناس ـ أي الاستعارة بالمفهوم البلاغي ! ــ لكفانا ذلك تبيانا لتأصّلها في السلوك الثقافي للتونسيين عموما ، صغارا كانوا  أم كبارا ، مثقّفين كانوا أم محدوديّ الثقافة ، مكلّفين كانوا بمقاومة هذه الظاهرة أم مكلّفين بتجنّب تجسيمها في كلامهم.

نّنا نقصد  اللغة الجنسيّة في الخطاب العادي للتونسيين عموما ، الا قليلا منهم يتنزّلون منزلة الشذوذ عن القاعدة .

لقد أصبح من الكلام المتداول أن لا يقول الواحد لصاحبه :

" أنا ذاهب لاحتساء قهوة " اذ كثيرا ما يفضّل تعويض هذا الفعل البريء والمنطقيّ بفعل آخرمستعارمن اللغة الجنسية.

ولا يقتصر هذا التحويل على مجال دون آخر من الحياة الاجتماعية فأنت تجده في عبارات معروفة تعوّض " جاءت الشهرية " ب " جاءت الد.."

وتجده في كلام من يودّ أن يقول ان فلانا ذكيّ فطن فيعدل عن ذلك الى عبارة " فلان ولد ق.." أما اذا كان الحديث عن امرأة جميلة فانها تصبح فلانة " ز.."
وفي حالة شجار بين رجلين في الطريق العام وعلى مرأى ومسمع من الجميع لن تسمع غير " توا ن.." أو

" توّا .." في أحسن الحالات

ان الأمثلة على ما ذكرنا يعرفها الجميع أكثر ممّا أدّعي معرفته. بقي علينا أن نشير هنا الى أمور لا بدّ من الاشارة اليها:

ـ هذا الخطاب شائع جدّا لا يخلو منه مكان أو مؤسّسة حتى ان كانت مؤسّسة تعليميّة

ـ هذا الخطاب هو ميزة تونسيّة على الأقلّ في شيوعه وعلانيته وكثير من العرب غير التونسيين يعجبون أشدّ العجب لقدرة التونسي على التوليد اللغوي في هذا المجال

ـ لا يقارب هذا الخطاب في انتشاره غير سبّ الرموز الدينيّة وبذلك يحصل التزاوج ـ لا حظوا استعمال هذه الكلمة البريئة جنسيّا ! ـ  بين صفتي البعد العقدي والبعد الجنسي المحوّلين لهذا الخطاب

ـ ما ذكرنا من الملاحظات لا نعتقد أنّ مجرّد حملة ردعية يمكن أن تأتي عليه اذ داخل بعمق بنية الخطاب التونسي عند مختلف الطبقات  الاجتماعية والثقافية ـ والأدب الممنوع لأسباب  لا أدبيّة يحاول أن يصوّر هذه الظاهرة ـ وان كان ذلك بنسب نقلّ أو تكثروهو مرتبط بموقف مضمر من الدين والمرأة وغيرهما كما أنه كثيرا ما لا يظهر على السطح الا في حالات من الغضب والتوتر النفسي ولذلك فهو يستدعي الدراسة والبحث حتى يقف المرء على الأسباب العميقة : أقول الأسباب العميقة لأن كثيرا من الكلمات ـ الفاحشة ـ

تستعمل حتى في البيوت ومن طرف الأمهات من دون معرفة بمعانيها ومن ذلك ـ  ماشية نتخلّع ـ أو ـ قوّاد

ولقد سمعت  مرّة في التلفزة أحد الرسّامين يقيّم سلبيا بعض من زاروا معرضه فقال " جاو يتمنيكو " 

ولن أختم هذه القراءة ـ القراءة ـ من دون أن أذكر مثالا ـ ساميا ـ هذه المرّة ما زلت أذكره منذ بداية السبعينات عندما تحوّل بعض رموز الدولة آنذاك الى رأس الطابية بغاية القاء كلمة في الطلبة حول الوضع الاقتصادي ـ الجيّد  كالعادة ـ :

كان يقرأ أرقاما من ورقة أمامه وكان الطلبة يعارضونه بذكر أرقام مخالفة. وعندما ضاق بهذا الجدل ذرعا طوى الورقة ثمّ وضعها في جيبه وصاح فيهم وهو يهمّ بالنهوض " والله لاما نورّيكم يا أولاد الق.."

وبذلك  زاوج (!) مرّة واحدة بين المخزون الديني والمخزون الجنسي في جملة واحدة موجزة وبليغة.