الطريق الجديد،  28 سبتمبر 1988
قراءات في سطور المدينـة، محمد الناصر النفزاوي

حـــتـّـــى نــــصـــــدّق هــــــــــؤلاء

تواترت الأخبار هذه الأيّام حول اعتزام عدد  من قدماء الساسة التونسيين كتابة مذكّراتهم أو على الأصحّ ترجماتهم الذاتيّة.
انّ هذا الاعتزام لا يصدر في نظري عن مجرّد رغبة ذاتيّة عند هؤلاء بقدر ما هو افراز حالة حضاريّة متطوّرة لا بدّ من العمل على تكريسها .
ولنذكر ازدهار أدب الترجمة الذاتيّة في البلدان التي تتوفّر على تراكم ثقافيّ مقبول وفقر البلدان التي لا تتّصف  بهذه الصفة في هذا المجال.
غير أنّه ليس يمكنني ألا أبدي بعض الملاحظات في هذه المسألة.
انّ كلّ ترجمة ذاتيّة تتحدّد قيمتها بسعة المجالات الحياتيّة التي تتناول وكثير من الترجمات الذاتيّة المقبولة لم تقتصر على هذا الجانب من حياة المترجم لنفسه دون ذلك الجانب الآخر أي هي شملت النشاط السياسي والفكري والجنسي والمالي أي ربطت بين واقع العلاقات الاجتماعيّة المتنوّع والمتناقض وغير الواضح دائما والبناء الفوقي وهو أمر أضفى عليها صفة مقاربة الحقيقة وان بمقدار.

غير أنّ كثيرا من الترجمات الذاتيّة في العالم العربي ـ الاسلامي خلت من هذه الشموليّة النسبيّة ضرورة وعمدت الى انتقاء الأحداث بشكل نرجسيّ وكأنّ الغاية منها مواصلة أدب الفخر ومغازلة الذّات المقيت الذي نعرف مدى انتشاره في عالمنا.
واذا كان البعض يبرّر هذا الانتقاء المفرط للأحداث  بعدم تهيؤ الرأي العام بما فيه الكفاية لتقبل " الاعترافات " فانّ هذا التبرير يبدو في نظري غير مقبول وذلك لأسباب منها أنّ الانسان مهما ادّعى قول الحقيقة فانّه يعمد الى انتقاء  ما جدّ في حياته من أحداث ومنها ما أصبح معروفا من أنّ المسكوت عنه في الكتابات خاصّة هو أهمّ بكثير ممّا يقع التصريح به. ومنها أنّ ممارسة هذا العمل يتطلّب شجاعة أخلاقيّة لا تتاح لكلّ الناس.
وهذه الشجاعة ان توفّرت هي التي يجب أن تبرّر لوحدها مثل هذا العمل.
أمّا أن يكتب البعض ترجماتهم الذّاتية لأسباب تبريرية أو لتبرئة أنفسهم من مسؤوليات يتحمّلونها  كاملة سواء أكانوا أفرادا أو بصفتهم مسؤولين ظّلّيين في هيكل سياسيّ مارس  الحكم طويلا وتكوّنت عند الناس وعند المثقّفين صورة واضحة عنه  فانّ هذا لا يدلّ على كثير من الشجاعة ولا على كثير من الأخلاق ذلك أن هذا التّبرير اذا كان له من شرعيّة فيجب أن يترك للدارسين دون سواهم.
هذا هو الفرق ، في نظري ، بين الشجاعة الأخلاقيّة والاصرار غير الأخلاقي على ' تغطية الشمس بالغربال " فأنا لا أعتقد أنّ ترجمة ذاتيّة ( سواء أكانت لرجل سياسة أو رجل دين أو رجل ثقافة وسواء أكانت لرجل أو امرأة ) تهمل التعرّض للحياة الماديّة والجنسيّة والسباسية لصاحبها يمكن أن تبرّر سعر بيعها مهما كان زهيدا.