الطريق الجديد، 5 أكتوبر 1988
قراءات في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

حول موقف محمّـــد ادريس ومعــــارضـيـه

أثار النقاش الذي دار بين  مقدّم البرنامج الأدبي " مؤانسات "  والسيد محمد ادريس ضجّة في بعض الأوساط الثقافيّة كان منطلقها مجموعة من ردود الفعل الصحفيّة آخذت مدير المسرح الوطني على رؤيته اللغويّة التي تحلّ العاميّة التونسيّة في المسرح محلاّ متميّزا.
وعلى العكس من موقف هؤلاء " المغالين " في الدفاع عن الفصحى كان شأن كثير  من المثقّفين الأكثرتشبّعا بالنسبيّة في تعاملهم مع هذه القضيّة.
لقد تتبّعت شخصيّا  هذه الحصّة ولم أحسّ البتّة أنّ ما صدر عن محمّد ادريس يدخل ضمن باب " الكفر الثقافي أو القومي " بل على العكس من ذلك رأيت في الرجل مثقّفا  واسع الاطّلاع في ميدانه وله مواقف واضحة ومحدّدة من كثير من القضايا الثقافيّة اضافة الى أنّه تميّز حسب انطباعي ( فأنا لا أعرف الرجل عن قرب ) بشجاعة خاصّة عندما تعامل مع مثل هذه القضايا من دون " تقيّة "  وهو أمر دفعني ، على غير عادتي ، الى متابعة حصّة حتّى نهايتها.
فما هي القضيّة عندئذ ؟

هل لأنّ الرجل يعتبر مثل كثيرين في هذه البلاد وفي غيرها أنّ اللغة الدارجة أقدر ، في المسرح ، على الامساك بنبض التونسيين ( وفيهم 50 في المئة من الأميين ) والتعبير عن ذلك  ؟
ثمّ لماذا يقع غضّ النظر عن مستعملي الدارجة في الأغاني وغيرها ( وهو موقف ضمنيّ من العربيّة ) ونقيم الدنيا ولا نقعدها عندما يخرج أحدهم من الموقف الضمني الى موقف " التنظير " ؟
وهل حقّا أنّ موقف محمّد ادريس حريّ ، لو عـــمّ ، بمزيد التفريق بين الشعوب العربيّة  وكأنّه يوجد اقتناع  عند البعض بأنّ الحلّ المفتاح لمعضلة العرب الثقافيّة والسياسيّة يكمن ببساطة في " تجانس لغويّ فصيح " في حين أنّ القضيّة ليست بهذه البساطة  ؟
وهل يظنّ البعض أنّ العرب قبل الآن كانوا يتكلّمون لغة فصيحة وموحّدة على الشاكلة التي توحي بها المسلسلات العربيّة ؟
انّني لا أنتظر من خلال تعداد الأسئلة اجابات ذلك أنّ ردود فعل الكثيرين لم تسع الى الاقناع بـ " تهافت " دعوة محمد ادريس فتورد  اجابات مقنعة تحسم في القضيّة ( يعينها الواقع في ذلك لأنّه الحكم الوحيد في مثل هذه المسائل ) ولكنّها عمدت
الى لغة الاتّهام  فاذا نحن ازاء " متغرّب " و " مستعمر " و " رجل يحنّ " الى لا أدري ماذا  أي تحوّل الحديث الى مستوى جداليّ ايديولوجيّ.
وأنا وان كنت لا أشاطر مدير  المسرح الوطني في كثير ممّا ورد في كلامه وخاصّة في التضخيم غير المقنع للأصالات الاقليمية حتى ليحسّ المرء ( وهو في بلد صغير تشغله قضايا  " الهندي " والأميّة البطالة الخ …)  أنّنا ازاء بلد  صغيرمعجزة فأنا أدعو الى احترام حقّ كل مثقّف في ابداء آرائه.
واذا كان البعض يبرّر الحملة التي شنّت ضدّ محمد ادريس  بمسؤوليته عن مؤسّسة وطنيّة فانّ مثل هذا التبرير يشجّع ، في نظري ، على " التقيـــة " وركوب الموضة الثقافية السائدة كما أنّه يدلّ على فقدان متأصّل لروح  الحوار.
فما هو الفرق ياترى بين من  يطلب " لجم " لسان  محمد ادريس في هذه القضيّة باسم الهويّة اللغويّة ومن يطلب في مسائل أخرى لجم من يتّخذ موقفا خاصّا من  فهم الدين باسم الهويّة الدينبّة ؟
أخشى أن تكون منطلقات أولائك وهؤلاء تصبّ في نفس النتيجة وهي قمع الرأي المخالف .
ثمّ أوّلا :
أليس الحكم الأوحد هو الناس العاديون أي التاريخ ؟  فبأيّ حقّ ننصّب أنفسنا أوصياء ثقافيين عليهم حماية لهم من مثقّفين معارضين ؟
ثمّ ثانيا :
هل كلّ ما قاله محمّد ادريس لا يدعو الى التفكير المعمّق والرّدود المتواضعة من مثل  أنّ تاريخ هذه البلاد وغيرها لا يبدأ مع العربية وينتهي بها . ومن عيش في الجزائر مثلا التي نطمح الى بناء الوحدة معها باعتبار ذلك خطوة نحو بناء الأمة العربية يحسّ بضغط " اللهجة " أو " اللغة البربرية " ( زيادة على  الدارجة الجزائريّة ) وتعلّق مناطق كاملة بها عن وعي. فماذا سيفعل غلاة الوحدة اللغويّة مع هذه " الأقلّيات " هل سيلجمونها أم يلقون بها في البحر ؟