الطريق الجديد ، 9 نوفمير 1988
قراءات في سطور المدينـــة ، محمّد الناصر النفزاوي

فـــي   خـــطـــر ركــــوب جـــياد الهويّات السّاكنة

ملاحظة: ما ينشر في هذه الصفحة من قراءات لا يعبّر بالضرورة عن رأي أسرة تحرير الجريدة

ذات يوم من سنة 1982 تجاذبت  أطراف الحديث مع مواطن جزائريّ من بلاد القبائل كنت أشتغل معه فسألني :
ـ ما رأيك لو ذهبت للعمل في بلاد العرب ؟
أجبته من دون تردّد:
ـ  لا أعتقد أنّ في امكانك أن تتحمّل العمل في سلطنة عمان أو في السعوديّة لنظرتك الخاصّة الى هذين البلدين
فما كان منه الا أن سارع بمقاطعتي :

ـ لما ذهبت بعيدا، يا شيخ ؟ أنا لا أقصد هذه البلدان. أنا أقصد عنّابة وتبسّة .
ولقد قضّيت أربع سنوات في مناطق القبائل شهدت ما جدّ فيها من أحداث كما شهدت استجابة السلطة الجزائريّة لكثير من رغبات  البربر في ما يتعلّق باللغة البربريّة  وكثير من المسائل الأخرى.
شهدت كذلك ردود فعل التلاميذ وحتّى الأساتذة عندما ألقيت ، بعد الحاح عليّ لطبعي النفور من الاستعراضيّة ، بعض المحاضرات في المعاهد لعرض  تفكير ابن خلدون  وكيف كانت هذه الردود تتراوح بين التصفيق الحاد كلّما وقع ذكر بعض رموز البربر من الكاهنة الى ماسينيسا والصمت أو التصفير كلّما تعلّق الأمر بالربط  بين البربر وأصلهم " اليمني " العربي بل لم يتمالك أحدهم مرّة من الصراخ :
ـ "  أنت مرتدّ فنفزاوة بربريّة " .
ويوم الخميس الماضي قرأت  في الزميلة " الموقف " ردّا لأحد القرّاء من ذوي الانتماء العروبي على مقال يبدو أنّ السيّد عبد العزيز بن حسن  نشره في مجلّة " المغرب "  ودافع فيه عن الذّاتيّة التونسيّة.
هذا الردّ يتلخّص في رؤية ترى أنّ كلّ شيء يردّ الى العرب بل انها لا ترى في من  كتبوا عن يوغرطة والكاهنة وغيرهما من أعلام البربر السابقين للإسلام غير مروّجين للأيديولوجية البورقيبية.
لقد تساءلت وأنا أقرأ هذه المقالة:
ـ ألا يلتقي بهذه الطريقة في التفكير غلاة الدّعاة الدينيين وغلاة الدّعاة العروبيين عندما يعتبرون أنّ تاريخ هذه البلاد وغيرها لا يبدأ الا مع القرن السابع الميلادي ؟
وتساءلت  ثانيا :
ـ كيف يمكن للإنسان أن يشتكي من الحزب الواحد  ويطالب بالتعدّديّة السياسية والثقافيّة على مستوى البلد الصغير الواحد ويرفض  هذه التعدّديّة نفسها عندما يتعلّق الأمر بالكيانات الكبرى الأكثر تعقيدا ؟
وتساءلت ثالثا :
ـ كيف يمكن ،  لو تحقق مشروع المغرب العربي  فوقيّا ( حتىّ لا نتحدّث عن الوحدة العربيّة أو الاسلاميّة ) ، أن تكون علاقة بعض غلاة العروبيين بصاحبي الذي افتتحت به الحديث وبأيّ منطق يقع منعه من التغنّي برموز بربريّته  تماما كما يتغنّى المسيّس الاسلاميّ بصحابته والمسيّس العروبي بذكرى الخلافتين الأموية في سوريا والعباسيّة في بغداد ؟
ثمّ ألا يكرّس مثل هذا التفكير في شمالنا الأفريقيّ ممارسات شرقيّة معروفة ازاء الأكراد أو الأقباط أو..أو..؟
وتساءلت رابعا :
ـ ألا تخفي الدعوة الى التعريب الشامل التي كانت منطلق الاستطرادات العنصريّة والايديولوجيّة فهما محدودا للأشياء حتّى لا نقول انتهازيّة واضحة عند البعض وذلك لأسباب منها :
ـ لقد رأيت الشوام المسيحيين سبّاقين الى النهضة الحديثة في القرن التاسع عشر خصوصا. وهؤلاء كانوا مرتبطين بأوروبا ودرسوا في الأديرة وفي المدارس المسيحيّة ولم تلحق الازدواجيّة بهم أيّ ضرر حتّى أننّا نقول في تونس " يعرف بالسوري " دلالة على أن فلانا يعرف الفرنسيّة.
ـ ورأيت أنّ ولادة المعاجم والرواية  والمسرح وبقيّة الفنون كانت بأيدي طبقة عربية وفّرت لها الظروف شروط الازدواجية اللغويّة وذلك في نفس الوقت الذي كان فيه المتقوقعون على التراث يجترّون المحنّط والمتخشّب.
ومن يقارن بين الشوام مروّجي الفكر الجديد بكلّ جوانبه في القرن التاسع عشر بدء بالداروينيّة عند شبلي شميّل وانتهاء بالماركسية عند فرح أنطون بل دعاة الوطنيّة وفكرة الدين لله والوطن للجميع ومحمد عبده وهو يصرّح أن ّ " المحافظة على الدولة العثمانيّة  ثالثة العقائد بعد الايمان بالله ورسوله فإنها الحافظة لسلطان الدين والكافلة ببقاء حوزته " فسيتأكّد أن من أسباب اجهاض النهضة  العربيّة غلبة النهج الثاني في التفكير على النهج الأوّل.
ـ يشتكي غلاة دعاة التعريب من " ضياع أبنائنا " و تشتّت أفكارهم. وأنا لا أعزو هذا التشتّت الى تعلّم لغتين في الابتدائي اذ أعتبر أنّ هذه السنّ هي أفضل سنّ لغرس بذور لغة أجنبيّة بقدر ما أعزو هذا التشتّت ( اضافة الى التأثيرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة الخرافيّة السلبيّة ) الى تضارب الرؤى التي يخضع لها عقل التلميذ :
فهذا المعلّم أو الأستاذ يلقّنه مبادئ علم يعتمد رؤية وضعيّة وذاك يلقّنه مبادئ علم لا هوتيّ أو ميتافيزيقيّ الخ .. هذه هي القضيّة الصعبة التي يجب أن ينكبّ عليها المختصّون لا الدعاة السياسيّون أو الدينيّون لأنّها تمسّ " دماغ الطفل " مباشرة أي هي بكلمة أخرى قضيّة ابستيمولوجيّة لا يمكن من دون البتّ فيها ، حسب نظري ،  تكوين بشر سويّ التفكير سواء في العلوم أو غيرها.
ـ يستشهد البعض بكثير من البلدان المتقدّمة التي تقتصر على استعمال لغتها وينسون أنّ العرب عندما اشتدّ ساعدهم الحضاري  قديما أصبحوا يجهلون اللغات الأخرى بل يستنكفون من تعلّمها .وذلك  هو شأن كلّ الأمم المتقدّمة( قديما خاصّة) لأنّها منتجة للحضارة. أمّا البلدان المتخلّفة فمن المفروض أن تعدّد مصادر المعرفة فلا تقصرها على لغة أجنبيّة دون أخرى.
ـ لنفترض أنّ سلطة أخرى غير سلطة بورقيبة  تولّت الحكم في البلاد في الخمسينات وانتهجت منهجا تعليميّا مغايرا فهل يظنّ عاقل اليوم أنه كان يمكنها أن تذهب في تطوير البلاد أكثر ممّا ذهبت فيه السلطة البورقيبيّة ؟

انّه يكفي المرء أن يلقي نظرة على كلّ البلدان العربيّة على اختلاف توجّهاتها ليتأكّد أنّ القضيّة أعقد ممّا يتصوّر البعض.