الطريق الجديد ، 22 نوفمبر 1988
قراءات في سطور المدينـــة ، محمد الناصر النفزاوي

فــي التّنــابــــــز بالألــــقاب  الـــــعلمــــيّـــــة

ورد في جريدة الصّباح بتاريخ 8 نوفمبر 1988 ما يلي :
"
أظهر د. الطاهر لبيب رحابة صدر كبيرة عند رئاســـة الجلسة الأولى التي خصّصت لقضايا الابداع والهويّة القوميّة حيث احتدم النّقاش أكثر من مـــرّة ورفض البعض نعتـــه بالدكتور كمصطفى القبّاج فما كان من الطاهر الا أن نعت البقيّة بعبارة " سـي " التونسيّة " .
هذا الخبر " الطّريف "  يستدعي كثيرا من الملاحظات منها :
ـ لو كان هذا " التّنابز بالألقاب " ميزة متعلّمين يتصارعون ضمن مؤسّسة تعليميّة مغلقة بدافع نزعات نفسيّة ومصلحيّة  كربوراتيّة لهان الأمر: فلقد تعوّدنا في الميدان التعليمي على مرتبيّة شهاداتيّة وعلى أن نكتفي من الجوهر بالعرض ومن القيمة العلميّة الحقيقيّة بالشهادة ومن الانتاج العلمي والثقافي المتواصل ب" أطروحة " يتيمة في الكثير من الأحيان ننصرف بعدها  الى الغرق  النّهائيّ والدّائم والكامل في عالم " البناء  والتّشييد الكنتوليّ والاسمنتيّ " .

ولكنّ ما يحزّ في قلب المصابين بالحساسيّة المفرطة أنّ هذا " التّنابز بالألقاب " حدث في جماعة من المثقّفين لا يكفّون عن الهتاف بالصوت والقلم أنّ همّهم هو البحث في قضيّة الابداع وهي قضيّة ليست في نظري التواضع مشروطة بهذه الشهادة أو تلك وأنّ هاجسهم البحث في " الهويّة القوميّة " ( وقد عمّموها حتّى شملت " هويّة " الحاضرين العلميّة ! ) وما علمت أنّ مثل هذا البحث يستوجب كثرة الّترحال وطول الاقامة في نزل مختلف البلاد العربيّة حتّى أن البعض أصبح يتساءل عمّا يمتهن هؤلاء؟  البحث الدائم و" الرسكلة " الدائمة أم السفر والنزهة وأصبح يتساءل عن سرّتبنّيهم بيت المتنبّي
فانّي أستريح بذي وهذا     وأتعب بالاناخـــة والمقام ؟
ـ انّ هذا " التنابز بالألقاب " يعبّر في نهاية الأمر عن جدّة هذه الشّهادات في بلدان عربيّة ما يزال فيها التعليم العالي انتقائيّا كما يعبّر عن تضخّم نفسيّ مرضيّ وعن شعور بالنقص المحوّل في نفس الآن:
فأنت تجد من ناحية بعض المؤسّسات  التعليميّة التي تصرّ على توخّي سياسة انتقائيّة لا تبرّرها رغم كثرة التبريرات غير مصالح كربوراتيّة وتجد من ناحية أخرى وتبعا لما تقدّم تهافتا عند بعض المتعلّمين على تحويل ما يحصلون عليه من شهادات عالية الى قناع أو شارة تميّز أو علامة اشهارية سواء أكان ذلك في ميدان الأدب أو الطبّ أو المحاماة أو القضاء الخ
وغنيّ عن الذّكر أنّ هذا الوضع المرضيّ يقابله وضع أسلم يتمثّل ( خاصّة في هذه الفترة الليبراليّة ) في أن يكون " الانتقاء الطبيعيّ " هو المعيار الأوحد سواء أكان ميدانه النشر وما يفرضه من حكم القرّاء على المثقّفين أو كان ميدانه التدريس وحكم التلامذة والطلبة على المدرّسين أو كان ميدانه المستشفيات والمحاكم وحكم المرضى والمتّهمين على الأطبّاء والحكّام.
انّ الذّوق يتأذّى لو سمع أحدهم يرفق اسم نجيب محفوظ بصفة مجاز في الفلسفة وهو يتأذّى لو سمع أحدهم يقول الدكتوراميل دوركايم أو المبرّز جان ـ بول سارتر.
وقد أكون قد أخطأت بدوري وأنا أعرّفهم اعتمادا على الذاكرة البعيدة بالشهادات التي حصلوا عليها في بدايات حياتهم فهؤلاء المثقّفون هم بناة نماذج ثقافيّة كاملة لأنهم مبدعون حقيقة لا مجازا.
وهم يحتاجون الى طلبة مسنّين قد يتوفّق البعض منهم في شرح بعض ما كتبوا فيحصل على هذه الشهادة أو تلك.
فمزيدا من التواضع أيّها المثقّفون العرب خاصّة في هذه النّدوة المخصّصة "للابداع" حتّى لا يطرح الأطفال وتلاميذ المدارس في شأنكم السؤال القديم مجدّدا :
"
اذا كان  من شرح كتابا لأرسطو فنال بشرحه شهادة عالية على هذه الحالة من "الانتفاخ" فكيف يمكن أن نتصوّر أرسطو نفسه لو سكنته نفسيّة مماثلة ؟
"