الطريق الجديد ، 21 جوان 1988

قراءات في سطور المدينة ، محمد الناصر النفزاوي

قـــمــــوح نصـــرانيّـــــة … بــــطــــون اســـــلاميّة …

بلغت صابة الحبوب الصيف الماضي رقما مدهشا حتّى أن المؤسّسات المختصّة لقيت ما لقيت من عناء لتوفير الأكياس والمخازن على حدّ سواء ومع ذلك لم نحقّق رغم هذه الصّابة اكتفاءنا الغذائيكنّا فقط على  مرمى ـ سهم ـ من الغاية المنشودة.

هذه السنة  لن نصل حسب الاحصائيات وفي أحسن الحالات الى سدس ما جادت به الأرض والسماء في السنة الفارطة.

تردّدت في آفاق من يعرفون بالتجربة أنّ مصدر عيش الناس هو ما يحقّقونه من انتصارات على الطبيعة ، أقوال تتراوح بين السخط والتسليم.

ولكن يبدو أنّ نمطا غريبا من التونسيين المتخصّصين في ـ تقويم الأرواح ـ لم تؤرقهم هذه الدنيويات :

اذا كان هناك صابة فالأمر عندهم لا يعدو أن يكون قضاء الهيا.

واذا أصاب الجفاف والجراد بمعانيه الحشراتيّة والبشريّة البلاد فذلك أيضا عقاب من الله.

قد يقول قائل :

لم هذا التبسيط ؟

ولم هذا التحامل ؟ وهل يوجد  بشر يفكّر بمنطق مشابه ؟

وليس في ما أقول تبسيط وليس في ما أقول تحامل.

اذ يوجد  فكر غريب  لا يقبله عقل معاصر ، يسيطر على أذهان كثير من التونسيين وغير التونسيين :

لقد كنت في بلد مجاور منذ سنوات وصادف  أن قوّض زلزال ولاية كاملة بمبانيها وسكّانها فقطعت التلفزة برامجها لتخلي المكان للقرآن وللحصص الدينيّة.

وكان أوّل من استهلّ الحديث رجل دين..ما الذي قال رجل الدين هذا ؟

بدأ بالاستشهاد بآية ( وكم من قرية أهلكناها ) ليصبّ الويل والثّبور على المدينة المقوّضة وعلى سكّانها الزائغين.

التفتّ الى الجالسين الى جواري وعندما رأيتهم لا يتفطّنون هول ما يصدر  عن هذا الشيخ سألتهم:

ألا يوجد مسؤولون في التلفزة يراقبون ما يبثّ ؟

ولكن ، والحمد لله ، وقع في هذه اللحظة قطع حديث الشيخ وعوّض بآيات قرآنيّة.

تذكّرت هذه الحادثة وأنا أسمع ـ هل يصحّ القول بأمّ أذني ؟ ـ البعض من السلفيين ـ وهم مشهّدون في الجامعة ـ يتحدّثون عن الجراد الذي اكتسح البلاد على أنّه ـ جنود الله ـ بل ذهب أحدهم الى أنه رأى على جناح جرادة اسم محمّد.

 أعرف أنّ الكثيرين لن يصدّقوا مثل هذه القصّة المضحكة  ـ المبكية ولكنّ ما يهمّ  هوأنّني تساءلت في نفسي:

كيف يمكن لأمثال هؤلاء أن لا يكفّروا غيرهم عندما يفهمون الله بشكل ينزّه القوّة المحرّكة للوجود عن فهم ـ المشبّهة ـ ؟

انّ أمثال هؤلاء هم الذين أجبروا كثيرا من الفلاسفة المسلمين على أن يكتبوا كتبهم انطلاقا  من مستويات متعدّدة حسب توجّهاتها الى ـ العامّة ـ أو ـ الخاصّة ـ أو ما بينهما.

هؤلاء الذين لم تشغلهم الأزمة الاقتصاديّة الخانقة التي يعيشها ضعاف الحال ومتوسّطوها في البلد فراحوا يشغلون الناس بالبحث في فقه رؤية الهلال.

لم يحدّثوا الناس عن مصدر  القموح ومشتقّاتها التي سوف ـ ترطّب ـ  بطون المؤمنين يوم العيد هل مصدرها الأرض الاسلاميّة أم الغرب النصراني الذي يحرّضون عليه الكبير والصغير على حدّ السواء من دون أن يستنكفوا من ـ تقبّل ـ نعمه ـ وهباته فتسدّ بذلك القموح النصرانيّة رمق بطون المسلمين.

ومع ذلك فلم أيأس وقد قال أحدهم :

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل !

وأنا لست يائسا لأنّني رأيت الصراع الفكري في البلاد يعطي بعض نتائجه اذ اختفت أقلام غثّة وعوّضتها أقلام أكثر مقاربة للعصر.

ولقد كان رأيي منذ البداية : فليحتدم هذا الصراع وليجبر عليه كلّ الناس لأنّ البقاء للأفضل والأصلح سواء أكان منتميا الى هذا الشقّ أو ذاك فما دعاة اغلاق الملفّات الفكريّة الا نرجسيون يخشون من التجاوز الحقيقيّ لهم ولما يرون أنه اقتناع نهائيّ.

وأنا ما سمعت أنّ  فكرا استطاع تجاوز ذاته بغير الاعتماد على محكّ المناظرة والمساجلة حتّى وان كانت هذه المناظرة في بداياتها تقاذفا متبادلا بالحجارة وحتى ان كانت هذه المساجلة تذكّر بالقرون الوسطى ما دمنا لم نتجاوز ذهنيا وعقليا ـ مثل الملايين  من البشرـ عصورا كنّا لمدّة قريبة نخال أنّها قبرت من دون رجعة.