الطريق الجديد، 1988
قراءات في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

المثقفات  و الكلاب ( 2 )

لم يعرف عن الحزب الدستوري أنه نفى في يوم من الأيام صفة التلفيقية التي تنسبها المعارضة اليه  سواء في فترة سرّيتها أو علنيّتها بل كان يتبجّح دوما ب" الواقعيّة"  ورفض " الحلول الجاهزة".
كلمات حقّ أريد بها باطل اذ الواقعيّة لم تعن في يوم من الأيام أن يسيّر " ربّان " باخرة من دون بوصلة أو من دون رسم دقيق للطريق والا كان مصيره ومصير الركاب جنوح السفينة. وتاريخ الحزب الدستوري تاريخ مراكب مهشّمة ومسافرين مبعثرين على الصخور.
هذه التلفيقيّة التي يودّ أن يبرزها اختيارا سياسيا أجبره عليها في الحقيقة تركيبة الحزب الدستوري وثقافة رموزه من ناحية ونوع الأحزاب الأخرى والاتحاد العام التونسي للشغل من ناحية  ثانية.فاذا كان الحزب الستوري ممثّلا في رموزه يمكن اعتباره الى حدّ ما افرازا لتوجّه غربيّ بورجوازيّ ثقافة وطموحات فان بقيّة الأحزاب الأخرى تتراوح بين السلفيّة والعروبييّ  واليسار النقابي والسياسي الذي يعمل على تغيير جذريّ لنمط المجتمع الموروث وهما شقّان لا يمكن للحزب الدستوري أن يتميّز من دون الوقوف بينهما موقف الوسط في انتظار أن يعمل على تصفيتهما على حدّ سواء.هذه التصفية لم تمنعه من أن يسطو على جزء من برامجهما وتصوراتهما ما زلنا نعثر عليه في تسميّة الحزب الحاكم نفسه الحزب الاشتراكي بالرغم من أنه أفرغ هذين المفهومين من مضمونهما اضافة الى أنه صبّ هذا الجزء من برامجهما وتصوراتهما في قالب غربيّ بورجوازيّ فصنع بذلك لجيل الاستقلال ومن بعده رضعة خليطة.

ان موقف الحزب الدستوري من السلفيين يفسّره أكثر من سبب. وسواء أكانت محاولته تعصير الحياة وسنّ قوانين لصالح المرأة قد أملتها دوافع سياسية أو ذاتية أو ثقافيّة ..فقد  ساعدت في دفع عمليّة التغيير مهما كان تقييمنا لابعاد المسألة الا أن معاداة ايديولوجية الحزب الدستوري الوراثية للتغييرالجذري انحرفت بهذا التغيير عن مساره فأخرجت المرأة من " عبوديّة " الزوج لتحوّلها الى امرأة متشيئة.
لقد كان اليسار ، على عكس الحزب الدستوري ، ينظر الى الأشياء نظرة كليّة اذ هو لا يؤمن بالثورات الترابيّة التي تغفل الانسان سواء أكان امرأة أم رجلا من ربقة الاستغلال.
كما أنه كان يرى أن التشريعات وان كانت تساهم في تغيير العقليات الموروثة فان تغيير علاقات الانتاج هو الكفيل ، وحده ، بتحقيق القطيعة بين المرأة وخطراستفاقة القيم القمعية في مجتمع كمجتمعنا, وهو ما يفترض بلورة صورة للمرأة قوامها العمل والوعي السياسي ذلك أن هذا الوعي السياسي هو الكفيل ، وحده ، بخلق امرأة تونسيّة تستوي عندها الأبعاد النفسيّة والعقليّة والجسديّة ، امرأة تناضل من أجل الحصول على نسبة تمثيل في البرلمان تناسب عدد النساء في البلاد ،  امرأة ترفض أن ترى نفسها مصلوبة في أجهزة الحزب الدستوري الاذاعية والتلفزية تتحدث باسمها " هنانــي "  ، امرأة ترفض أن تكون  قطّة انجاب أو امرأة فراش أو امرأة دمية أو " كــريــة " عربية ، تهتمّ بمسائل التنمية وتنشغل بحرب النجوم ، تكره أن تغرق في   ال  "زقوقو" حتى وان تضخّم سعره من دينارين الى سبعة دينارات ، تكره  أن تغوص في أمعاء خروف العيد المستورد اشتراه زوجها ب" قرض "  ، تطالب بالشغل و..بمنحة البطالة..وبتوفير دور الحضانة وبتطهير التلفزة  من أغاني " الشرق شرق والغرب  غرب" ، تتظاهر عند تزييف الانتخابات التشريعية والبلديّة و...الرئاسية  وعند حرق مقرّات أحزاب المعارضة.
هذه هي المرأة التي يطلب اليسار صياغة ملامحها. وهذه هي المرأة التي يكره الحزب الحاكم أن تظهر للوجود لأنها تتحوّل من كــمّ بطنيّ الى كيف متمرّد وعقلانيّ ولذلك فهو يعمل على اصطياد عصفورين بحجر:ادعاء تحرير المرأة من ناحية وصياغة صورة للمرأة تمثّل نصفا شعبيا سالبا أو داعما للسلطة الحاكمة من  ناحية ثانية.
ومن يشك في ذلك فالمجتمع أمامه أغلب بنات المعاهد وهنّ يتحدّثن عن " الألب " من سنّ الثانية عشرة، نساء المنازل وهنّ يغرقن في " دموع " المسلسلات التجارية ، " مثقفات " اتحاد نساء الحزب الدستوري ومجلّة المرأة وهنّ ينشغلن بقضايا " الموضة " و " المقروض " معا في عمليّة تلفيقيّة لا تشبهها الا تلفيقية " أصحاب النعمة ".
ومن تشذّ من النساء عن القاعدة فمصيرها التشويه والعقاب : يتناسى الحزب الحاكم عندها أريحيته و"عطفه " على المرأة.
ذات مرّة استمعت الى رئيس وزراء السبعينات  وهو يتّهم في خطاب حزبيّ المثقفات الجامعيات اللائي هبطن الى الشارع احتجاجا على سياسة الحزب الرأسمالية  ب " أنهنّ يطالبن بالحريّة الجنسيّة ".
لقد كان يتحدّث في كهول حزبيين قيل انهم صاحوا على اثره " هاتوهملنا ".
عندما يلجأ مسؤول بهذا المستوى الى تشويه سمعة تونسيات وقد أحسّ بأن المرأة يمكن أن تكون معارضا سياسيا فكيف نستغرب عندئذ من ممارسات أخرى ؟ : أن تمارس بعض الممارسات  الخاصة على المثقّفات في محلات الايقاف ، أن تغلب اللغة الجنسيّة على كلام التونسي حتى لتصبح نمطا بلاغيا خاصا ، أن تصبح اللغة الشعبيّة تصف المرأة الجميلة ب"التلفزة الملوّنة" والأقلّ جمالا ب" noir et blanc" والموظفة ب"bon de caisse" الخ خاصة بعد سيطرة النمط البورجوازي الاستهلاكي كلّية  ، أن ينتهي الأمر كما حدث  في المدة الأخيرة وبعدما وصل التشهير بالمدرسين ذروته السنة الفارطة بغية تشويه كل من يتصل  بالتربية بسحب هذه الصورة على التلميذات والمعلمات فيهاجمن جماعيا وليلا في مؤسسات تربوية ابتغاء اغتصابهنّ ...انها أبعاد قصّة المثقّفات خصوصا والكـــــلاب.