بقلم الأستاذ علي الإدريسي (المغرب الأقصى)

الحداثيون والسلطة والاستعمار في شمال إفريقيا

 تقديم:

وصلتنا من الصديق  علي الإدريسي (المغرب الأقصى) يوم السبت 5 نوفمبر  رسالة تهنئة بالعيد  تضمّنت" مقالا قصيرا يحاول أن يفهم دواعي تصريح السيدة سهير بلحسن حول الدور المنتظر من فرنسا في دول جنوب المتوسط بعد الانتخابات التونسية الأخيرة ".

وعليّ أن أشير الى أن الأستاذ الإدريسي ينتمي الى هذا الإسلام الأمازيغي الذي  لا تكاد تربطه صلة بالإيديولوجيات الإسلامية والقومية واليسارية و الليبرالية  الشرقية والغربية  على حّد سواء اذ أن "ديانته"هي القومية المغربية.( أنظر ما كتب في هذا الموقع عن علي الحمامي وروايته "إدريس,رواية شمال أفريقية").

محمد الناصر النفزاوي.

الحداثيون والسلطة والاستعمار في شمال إفريقيا

علي الإدريسي

يتهم الذين يدْعون أنفسهم بـ"الحداثيين" غيرهم من المواطنين الذين يتبنون المرجعية الإسلامية في تفكيرهم السياسي وفي دعايتهم الثقافية بأنهم "ظلاميون"، وأنهم يشكلون خطرا على الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان. دون أن يقولوا للناس ماذا يقصدون تدقيقا وضبطا بهذه العبارات، هل هي مجرد إعلان عن انتماء هذه "النخب" إلى السلة الاصطلاحية الأوروبية، كامتياز لهم عن باقي المواطنين، أو هي غنيمة حرب الاستقلال التي لم يخوضوها، لكنهم استفادوا وحدهم من ريعها الاقتصادي والسياسي والمفاهيمي أيضا؟

أوليس الحداثة السياسية تعني قبل كل شيء الاحتكام إلى صناديق لاقتراع، وأن الديمقراطية تعني في أولى أبجدياتها احترام اختيار الشعب لبرنامج من برامج الأحزاب السياسية ، وأن حقوق الإنسان لا تعني حقوق جماعة دون أخرى؟ أوليس أن زمن احتكار المعرفة والحقيقة والوصاية على الشعوب قد تهاوى في الغرب بعد القضاء على أنظمة التفويض الإلهي، وهاهو يتهاوى أيضا في بلاد العرب والأمازيغ بقوة ثورة الشباب، متجاوزا كل الشعارات التي لم تحمل إليه في الواقع إلا الاستبداد والبؤس؟  

نطرح هذه التساؤلات، بعد أن دأبت هذه النخب المغاربية الفرنكوفيلية، التي قال بشأنها الجنرال دوغول "لقد هيأنا (في المستعمرات) نخبة من الرجال مشربين بمبادئنا المتصلة بحقوق الإنسان والحرية متعطشين للحلول محلنا في جميع المناصب1" قبل أن يضيف"هل يعني ذلك أننا إذا تركناهم يحكمون أنفسهم بأنفسهم يترتب علينا التخلي عنهم بعيدين عن عيوننا وقلوبنا" ؟ فأجاب: " حتما لا… فالواجب يقضي بمساعدتهم لمجرد أنهم يتكلمون لغتنا ويتقاسمون معنا ثقافتنا2 "، دأبت، على الاستنجاد بفرنسا لحمايتها من التيارات التي قد تحرمها من غنيمة الاستعمار وسبايا الوطن وامتيازات "الاستقلال".

وآخر ما بدر من هذه النخب ما فاهت به التونسية السيدة سهير بلحسن، رئيسة الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، التي طلبت من فرنسا من على بلاطوه إحدى قنواتها التلفزية ضرورة تنفيذ ما تبقى من وصية دوغول. وذلك عندما تساءلت بلغة احتجاجية عن دور فرنسا في دول جنوب المتوسط، وفي حماية حقوق الإنسان والحداثة والديمقراطية في تونس بعد أن حصل حزب النهضة، ذو المرجعية الإسلامية، على أكثر من 40% من مقاعد المجلس التأسيسي التونسي في انتخابات 23 أكتوبر 2011.

والسيدة بلحسن نموذج من المحميين الجدد الممتطين لقطار حقوق الإنسان لإدامة استفاداتهم الريعية  باسم شعارات هي براء منهم. فهم في واقع الحال والتجربة ليسوا أكثر من حصان طروادة المصالح الفرنسية بصفة خاصة، مثلما كان سلفهم من المجنسين والمحميين قبيل الاحتلال الفرنسي وأثناءه، وهاهم الآن يرقصون على بندير حقوق الإنسان، كما غنى سلفهم على أنغام "التمدن واللحاق بركب الحضارة الإنسانية"!

والسيدة سهير بلحس، وكل من هو على شاكلتها، لم تكن لدهم الشجاعة أثناء حكم بن علي، المنتمي أصلا إلى نفس النخبة، أن يرفعوا أصواتهم في القنوات الفرنسية الوفية دوما لاطمئنانات دوغول بشأن المستعمرات "السابقة"، لمطالبة فرنسا بالقيام بـ"مسؤوليتها" نحو تونس، من أجل الحد من بطش بن علي واستحواذ ليلى الطرابلسي وأسرتها على خيرات تونس باسم تحرير المرأة التونسية!

 لماذا لم يحدث ذلك؟ لأن السياسة الفرنسية الرسمية كانت تشيع أن نظام بن علي وزجه ليلى نموذج يجب أن يحتذى به في كل الشمال الإفريقي.

والتونسيون الذين لا ينتمون إلى ورثة الاستعمار لا نعتقد بأنهم سينسون مواقف فرنسا من الأنظمة القمعية لشعوبها في الرقعة الجغرافية التي تسميها السيدة بلحسن "بلدان جنوب المتوسط". وستبقى الأجيال التونسية واعية ويقظة من تحذيرات ووصاية الرئيس الفرنسي ساركوزي من أن فرنسا ستبقى متيقظة ومراقبة لحقوق الإنسان في تونس بعد فوز حزب النهضة في الانتخابات. مما يؤكد مجددا حنينها إلى نظام الدكتاتور المخلوع بفضل ثورة الشعب التونسي.

والأمر الثاني الذي سيبقى، بلا شك، موشوما في ذاكرة التونسيين، وفي ذاكرة كل طالبي الحرية، كل ما تذكوا ثورة هذا الشعب، أن فرنسا عرضت مساعداتها الأمنية على نظام بن علي للقضاء على ثورة 17 ديسمبر 2010. فهل يكفي أن يختبأ ورثة الاستعمار وراء شعارات حقوق الإنسان والحداثة والديمقراطية لإخفاء تواطئهم مع حماة الاستبداد المتشدقين بحقوق الإنسان والديمقراطية؟

قال بطل معركة ديان بيان فو الجنرال جياب "الاستعمار تلميذ غبي"، ولكن يبدو أن محمييه من "بلدان جنوب المتوسط" أغبى منه. لأنهم اعتقدوا بأنه يمكن استغفال شعوب هذه البلدان بشعارات المرحلة، متناسين أن الزبد يذهب جفاء ولا يصح إلا الصحيح، بل أن غباءهم يظهر جليا كذلك في ذهولهم عن مقاصد التاريخ وعن حركية الشعوب في ترسيخ قيمها الذاتية، وممارسة النّديّة في علاقاتها مع محيطها العالمي، بصفتها شعوبا كاملة الأهلية جديرة بالحرية والكرامة.

إن الذين يتنكرون لهوية شعوبهم ويحتقرون ثقافتها، ويحلمون بحماية فرنسا، أو غير فرنسا، لهم من شعوبهم، لن تكون لهم أي استمرارية في تاريخ بلدانهم، بل سيُنسوْن ويُهملون في خضم نضال الشعوب من أجل الحرية والعدالة والكرامة.

 ومهما تتعدد ادعاءات انتمائهم إلى الكونية، أو مسوغاتهم المختلفة لتبنيهم التبعية لنمط حياة غيرهم، ومهما حملوا من شعارات الحداثة وحقوق الإنسان، فإن مآلهم لن يكون أفضل من الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان يظن أن إغلاق جامع الزيتونة والقضاء على الزيتونيين أعظم عمل أنجزه لصالح الفكر الفرنسي عندما صرح لجريدة لومند "Le Monde" الفرنسية في شهر يوليوز 1976. أنه قام بعمل عظيم عندما أغلق أبواب جامع الزيتونة، وتأسف كون أن عمله "لم تفهمه أوربا، ولم تقدر قيمته فرنسا". ثم لطالما حاول إقناع التونسيين وطمأنة الفرنسيين بـ"أن من مصلحة تونس أن ترتبط بالغرب، وبفرنسا بصورة أخص، وأن مارسيليا أقرب لنا من بغداد أو دمشق أو القاهرة". (نقلا عن الطاهر بلخوجة، سيرة زعيم، ص 15)، فهل نجح في مسعاه، وهل استطاع أن يسلخ الشعب التونسي عن هويته؟

لقد كان كل ذلك من أجل حماية فرنسا لنظامه والادعاء بضرورة "اللحاق بركب الحضارة"، ونسي كما ينسى هؤلاء أن النسخ لا يمكن أن يرقى إلى الأصل، بل يمكن جدا أن يتحول إلى مسخ، لأن "المكسي بشي ناس عريان". وشتان بين النزوة والهوية، وشتان بين الحداثة السياسية والحداثة البوليتيكية Alboulitikia.