بقلم محمد الناصر النفزاوي

في لحظة النشوة القصوى - orgasme

وما يعقبها في السياسة والدين والمجتمع

أو
في بداية نهاية أسطورة "النهضة"

 

استيقظت يوم 23 أكتوبر على الساعة الرابعة صباحا وبدأت أتصفح ما كتب في الإنترنيت بضجر. إلا أن ما قرأت في موقع" الخبر" الجزائري من تصريح لراشد الغنوشي يؤكد فيه بيقين "نهضوي إسلامي" أن حزبه سيحصل على 50 في المائة من الأصوات ليشكّل حكومة ! " أثارني الى حد أنني اضطررت الى الردّ عليه في التوّ في هذا الموقع الذي أهمل الرد ّمثلما يفعل في كثير من الأحيان.

لقد قدرت أن حزبه لن يحصل على أكثر من 25 في المائة من الأصوات فهل أكون قد أخطأت ؟ وهل أنا أنتمي الى هؤلاء الذين يصرّون على رفض الواقع ولو كان جليّا أي يدخلون ضمن من يقولون بـ"المعيز ولو طارت"؟.

إنني لم أخطي إلا في أمر واحد وهو حاسم في ميدان السياسة باعتبارها " لعبة" قلّما تتّفق مع الأخلاق. ولقد كانت النهضة حزبا سياسيا ما أبعده عن الصورة الخرافية التي رسمها لعامة الناس حول قيم الإسلام مثلما تظهر عند عدد من قدماء المسلمين.

وها أنا أرسم لكم صورة صادقة قدر الإمكان عن حياة الحيّ الذي أسكن يوم انتخابات المجلس التأسيسي لأنني أعرف كثيرا من الناس فيه:

لقد أخطأت عندما ظننت أن الغنوشي وحوارييه يعيشون وهما كبيرا وأن تونس اليوم لم تعد تونس الأمس لأنها أصبحت طليقة طلّقت وهم الماضي وأصبح الإيمان الوحيد عند أغلبية السكان ثلاثي الوجوه: العدالة الاجتماعية والنظام والمساواة .أي أن هذا الوضع التونسي الجديد يقتضي إنسانا تونسيا جديدا يختلف كثيرا عن صورة "إنسان النهضة".

أخطأت هنا لأن هذا الإنسان أظهر بالتجربة أنّه إنسان السطح الذي ما أن "تتوغّل " فيه قليلا حتى يظهر لك فقرا سياسيا مدقعا . ومن تابع مثلي كلمات كثير من أصحاب الأحزاب السياسية لا شكّ أنه أصيب بوجع في الرأس لأنه رأى القوم يلقون خطبا ما أشبهها بخطب مدرس مبتدى ضائع بين الأوراق مكثر من الوعود يلوك حديثا عن العلمانية التي ينطقها خطأ متحدثا عن اقتصاد لا يفهم منه شيئا .ولقد صادف أن تابعت حصة إذاعية استضافت أستاذ اقتصاد مكلف في الحكومة الانتقالية بما يشبه مشروع "مارشال" تونسي . وعندما سأل صاحب الحصة الأستاذ بعد أن أتم عرضه انه كاد أن يسمع في العرض كل ما "تلوكه" برامج الأحزاب السياسية ولكن من دون منهج أو تنظيم أو وضوح رؤية أجابه هذا في لغة لا أدري إن كان فيها استخفاف بهذه الأحزاب:
"
ذلك أنهم من تلامذتي! ".

وإذا كان هذا هو شأن عدد كبير من السياسيين فهل يمكن الحديث عن انتخابات تقبل عليها أعداد غفيرة لا تعرف من الأحزاب التي تفوق المائة غير ستة أو سبعة أحزاب عمد بعضها الى رشوة الناخبين وخضعت أعداد من النساء الى أوامر الزوج بالتصويت للديانيين خاصة؟

 

غادرت بيتي يوم 23 أكتوبر على الساعة السابعة صباحا متّجها الى مكتب الاقتراع على بعد مائة متر. وما أن اقتربت منه حتى ظهر أمامي صفان طويلان، واحد للرجال وآخر للنساء فقلت في نفسي " ها هي "النهضة تنهض !" بل ها هي" سيدي بوزيد بشامانها الشاب الحامدي مضافة إليها قفصة بل ريف القيروان "تنهض" لاستعادة أمجاد "الزحف الهلالي" بمباركة القرضاوي الذي يدعو من قطر الى إقامة دولة اسلاميية تضم ليبيا وتونس و...مصر.

عدت الى البيت "منتظرا" أن يتناقص المصطفّون و يا ليتني ما فعلت!. ذلك أنني عندما عدت الى مركز الاقتراع بعد ساعة وجدت صف الرجال قد امتد بشكل لم أر له مثيلا في الحيّ في حين أن صف النساء كان ممتدا كذلك ولكن داخل المركز.

كان المقترعون صنفين : صنف "حرثه" القائم على المسجد وأغلبه يتكوّن من بسطاء الحال الذين"تسوّدت" نساؤهم من دون أن يكنّ خليجيات . وأغلبهن أمّيات أو شبه أميّات جئن نزولا عند "أوامر الزوج" بالتصويت لـ"النهضة" وصنف ثان كثير التنوع يتنزل سوسيولوجيا وفكريا سياسيا منزلة أرفع إما قليلا أو كثيرا من منزلة الصنف الأول مثلما يتنوّع لباس نسائه اللائي إن هجر أكثرهن البنطلون فقد اكتفين بـ"وشاح" وظهر عند عدد منهن اللباس المراكشي المحتشم. هذا الصنف الثاني صوّت في الغالب للأحزاب غير الدينية محبّذا قيام حكومة انتقالية مستقلة عن الأحزاب العقائدية حتى ليمكن القول إن التونسيين في "ضواحي" بيتي أصبحوا يمثلون رهطين من البشر لا يلتقيان : رهط يكاد أن يكون سيدي بوزيد التي تقاسمها إجمالا الغنوشيون وخصومهم من قادة "العريضة الشعبية "المشبوهة سياسيا .

لم أتمكن من الانتخاب لأول مرة في حياتي إلا بعد ساعات طويلة من الانتظار.

وفي الأثناء كنت أحوّل النظر الى السماء عندما أحدس أن البعض كان يسعى الى محادثتي لأنه خيّل إليه أنه يعرفني لمجرد أنه كان يجاورني من دون أن يطرأ على باله أن مصابا مثلي إصابة قاتلة بـ" برصاصة الأخلاق الرشدية " أقصد غير الغزالية ليس يمكنه أن ينظر إلا من عل الى أمثال هؤلاء الجيران الذين كنت أعرف أنهم يعيشون صراعا طبقيّا حقيقيا يطمسه التلاقي في المسجد يوم الجمعة .

سكان الحي الذي أسكن يملكون في الجزء المرفّه منه مساكن أغلبها يقدّر بأكثر من مائة وخمسين مليونا بالأسعار القديمة أما سكان الجزء "الصبّاري"منه فقد تخصّصوا في السطو على بيوت الصنف الأول. ولقد سبق أن رأيت بأمّ عيني الطريقة التي هاجم بها بعضهم معملا يبعد عن بيتي خمسين مترا:مائتان من البشر أعرف كثيرين منهم سلبوه سلبا قبل أن يشعلوا فيه النار فأصبح أثرا بعد عين. وها أنني أراهم اليوم مصطفين في انتظار تصويت لا أعتقد أنه "مجّانيّ" .

هذه الحقيقة هي التي دفعتني الى التساؤل عن حقيقة هذه الانتخابات ومضمونها الأخلاقي اذ ليس في إمكان هذا الموقع أن لا يتعرّض لما يسمّيه الوهم والحقيقة في التجربة التونسية على الرغم من الشفافية التي ميّزت هذه الانتخابات. فالموقع لا يهتم فقط بما هو كمّيّ .وصاحبه ليس برجل سياسة حريص على طيّ الصفحة أخلاقيا أي على الاكتفاء بـ"فقء الدمّل الإسلامي" حتى يمكن المرور الى مرحلة جديدة.

 

ما هي ملامح الفترة القادمة ؟

من المعروف أن مفتاح الحنفية في هذا البلد الذي يشكو من بطالة شباب مزمنة موجودة خارجه ولذلك لن يكون في إمكان أي كان أن يتجاهل هذه الحقيقة كما أن " العرس التونسي" لن يدوم طويلا بسبب إلحاح القضايا الحقيقية لا الوهمية في البلاد.

إن ما جدّ من إصلاحات سيهضمها المجتمع فتدخل في طريقة عيشه التي ستطلب المزيد من التغييرات. وإذا كان لا بدّ من تحديد بعض أهم الانجازات في هذه الفترة فهو في نظري فقء الدمل الإسلامي اذ من الذي يمكنه بعد الآن أن ينصّب نفسه "منقذا"للناس خاصة إذا عرفنا أن كل ممنوع مستحب وأن المسألة الاجتماعية ستكون الفيصل في تحديد مصائر الأحزاب؟.