الطريق الجديد، 1986
قراءات في سطور المدينة،  محمد الناصر النفزاوي

في صراع اللهجات

سألني أحدهم أتكتب قراءات في سطور المدينة أم تكتب قراءات في ممارسات الحزب الاشتراكي الدستوري ؟
لقد كان يقصد ، لا شك في ذلك ، أن السلطة الحاكمة لا يمكن أن يحمّلها الانسان كل شيء لأنه بذلك تنتفي مسؤوليّة المواطن.
والحقيقة هي أن سائلي كان يمكن أن يصيب الحقيقة لو كنّا بصفتنا مواطنين نعيش في بلد  يساهم مواطنوه جميعهم في بلورة تصوّرات نمط المجتمع..وواقعنا غير ذلك تماما فالسلطة ـ كأم حنون ـ تدفعها أسباب معروفة الى رفض ـ فطام ـ الشعب بعد ربع قرن من ـ الرضاعة ـ فكرّست بذلك تبعيّة ـ الاطفال ـ الأطفال الكبار بشكل لا يسمح بأن نحمّل أغلبيتهم مسؤولية ما كانوا ولا ما أصبحوا عليه.
ألم تر كيف حاولت هذه السلطة منذ البداية تعصيرهم فوقيّا فكان أن عصرتهم ؟

لقد كانت ـ أمّا ـ متسلّطة ونرجسيّة ودعيّة في نفس الآن لذلك عملت على صياغتهم على شاكلتها
متسلّطين ونرجسيين وأدعياء
متسلّطين خاصّة
أرادتهم تأكل طبقة منهم بقيّة الطبقات
تأكلها اقتصاديّا وسياسيّا ولهجويّا
أصبح من الضروريّ على التونسي من بعض الجهات أن يفهم ضمنيّا أن السيطرة لا تنفرد بها لغات القوى العظمى ازاء لغات بلدان الجنوب
اللغة فرنسية أو الأنكليزية مثلا ازاء العربية
أصبح من الضروري على التونسي من بعض الجهات أن يفهم ضمنيّا أنه توجد لهجة شريط ساحليّ ولهجات دواخل وأن الذي يمتلك السلطة الاقتصادية والسياسية لا بدّ عامل على فرض سيطرته على مستوى اللهجات أيضا
بتحقير اللهجات الأخرى ان علنيا وان ضمنيا
علنيّا عندما يسمح بخلود برامج هابطة تبعث على الغثيان مثل ـ قافلة ـ تسير
ضمنيّا عندما يتكرّس الوعي الجماعي للناس أن ـ القادم للمدينة ـ عليه أن ينزع عنه لهجته الأصليّة كما ينزع نعلا صحراويا أو كافيا أو جندوبيّا.
ولا يهمّ أن تكون هذه اللهجة أو  تلك أقرب الى العربية من اللغة النموذج
ولا تهمّ حقيقة أن كلّ طبقة تعيش صراعا ضدّ بقيّة الطبقات حتّى في مستوى اللهجة
ومن يحاول ترصّد تنوّع اللهجات انطلاقا من الانتمائي الاجتماعي في تونس سيلاحظ العجب
سيلاحظ أنه توجد طبقة تعتبر العربية نفسها سواء أكانت فصحى أو دارجة ـ دخيلة ـ
سيلاحظ أنه توجد توجد شرائح  اجتماعية تستعمل لغة فرنسيةـ عربيّة عجيبة
سيلاحظ أن المهمّشين أنفسهم يملكون لغة يصعب أحيانا الاحاطة بمعانيها الحافّة
ولكن هذه الفئات كلها تتّفق لا شعوريا في أمر واحد، القرف الغامض من لهجات الدواخل : من ـ نايا ـ ومن ـ أني ـ ومن ـ أنايا ـ
انها ، في نظرها ، لهجة ـ الاقعارـ أوـ ما قبل المدنيّةـ
لذلك أصبح على طلبة الدواخل كلّما وفدوا الى الجامعة أو الى الشغل أن يسارعوا الى تحقيق أمرين أساسين
1.الاسراع بتبديل اللباس
2.الاسراع بتبني أي لهجة  ما عدا اللهجة الأصلية
كبت جديد يضاف الى أشكال الكبت الأخرى في بلد يعيش كثير من مسيّريه أزمة نطق عربي أكبر شاهد عليها أحاديثهم في وسائل الاعلام المسموعة
شكل جديد من أشكال سطو  الواحد على المتعدّد والمدينة شبه الريفية على الريف
من من الناس يجرؤ الآن على تسمية أطفاله بالشكل القديم ؟
من من الناس يجرؤ على الدفاع عن لهجته في كلّ مكان ؟
كان الناس في العصر الديني تسمّون أبناءهم وبناتهم ب فاطمة وعمر وعائشة وأحمد
كان الناس  في العصر الزراعي  يسمون أبناءهم وبناتهم بأسماء أيام الأسواق : حـدى والجمعي والسبتي
وبأسماء ظواهر الطبيعة :النوي
وبأسماء الخيرات الفلاحية : تفّاحة
وبأسماء الحيوان :غزالة
وجاء عصر الصناعة التجارة والمسلسلات الاستهلاكيّة فاذا كل الأسماء ـ المرطّباتية ـ تظهر للوجود كــ ـ حنان ..ابتسام ..عواطف
وحتى أسماء المناطق البعيدة التي لم يزرها المواطن ولا عرف معناها ك شيراز
كل هذا نفسّره بعوامل التغيير فلكل عصر طرق انتاجه وذوقه الخاص..ولكن ما يبعث على الحيرة  هو أن نعيش ضمن بلد تابع ثقافيا للغات الشمال المتقدم لا يستنكف أن يترجم ، وهو البلد الصغير ، سيطرة بعض الجهات الاقتصادية والسياسية الى سيطرة لهجويّة على بقية الجهات.
والحقيقة هي أن أبعاد القضية الجهوية متعدّدة فالتفاوت الاقتصادي بين الجهات ليس الا جانبا من المسألة: ومن  يرى ايطاليا البلد الأوربي المجاور يعرف سبب ـ تعصّب ـ كل جهة  للهجتها  وهي البلد الذي لا نظنّ أن لغة المؤسسات فيه تتعرّض لضغط اللغات الأجنبية بالشكل الذي تتعرّض له العربية عندنا
كما أن من يطّلع على بعض البحوث الخاصة بالأقلية الزنجية في الولايات المتحدة يمكن أن يستنتج الكثير خاصة من المثال التالي:
قبل الانتفاضة الزنجية المعروفة في الستينات عرضت مجموعة من الدمى البيضاء والسوداء على عدد كبير من الأطفال الزنوج فكان أن وقع  اختيارهم جميعا وبلا استثناء على الدمى البيضاء
بعد سنوات وعلى اثرالاستفاقة الزنجية أعيدت نفس التجربة على أطفال زنوج من نفس العمر فكان ردهم جميعا أن فضّلوا بكل فخر الدمى السوداء على غيرها من الدمى الأخرى ذات اللون المختلف.