الطريق الجديد، 27 نوفمبر 1986
قراءات في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

معدة تلتهم الحـــارّ والحلــو والمـــالح

ـــــــــــــــــ

يولد الطفل وينمو على الرّضاعة..فكيف لا يكون معنى السلطة الأوّل هو حـبّ الحلاب ؟ انّه من الصّعب أن نرى في أيّ كان نتيجة لذلك غير فــم قاس يستميت في تحديد موقع الثّدي النازف ، ثدي الوطن.

ــــــــــــــــ

لنتّفق مرّة واحدة
لنكتب الحقيقة مرّة واحدة
حقيقة أن لا وجود لمؤسّسات في هذه البلاد
نقصد بالمؤسّسات الأسس
لا نقصد بالمِؤّسسات اللافتات
نقصد  بالمؤسّسات المضمون
لا نقصد  بالمؤسسات    الشكل
نقصد بالمؤسسات الدماغ
لا نقصد بالمؤسسات هذه الخلايا والأعضاء المتناثرة تتحرّك من دون تنسيق


وليقل من شاء ان هذا التصوّر ميكانيكي وأنه نابع من فهم بيولوجيّ للحياة الاجتماعيّة
انّنا نؤمن أن كلّ شيء آلة
 وهو جسد
المجتمع جسد
النّص الأدبيّ جسد لفظيّ  الخ
وبعد ذلك تأتي الشعوذة الخطابيّة
كلامنا يعني أنّه اذا أردنا أن يكون الجسد التونسي منيعا وأن تكون كلّ خلاياه وأعضائه محصّنة فيجب عقليّا أي سياسيّا أن نمدّ كل خليّة في هذا الجسد وكلّ عضو فيه بما يحتاجان من هواء ومن غذاء.
والهواء هو الثقافة وهو الحريّة وهو الرئة والغذاء هو ـ العيش ـ كما يقول المصريّ المعذّب أخونا أي الاستثمارات الموزّعة انطلاقا من فهم سياسيّ أساسا للأشياء بغض النظرعن امكانات البلد الاقتصاديّة.
كلامنا يعني أنه اذا حصلت بعض الخلايا وبعض الأعضاء على أكثر ممّا تستحقّ من هواء ومن غذاء فانّها تتضخّم مرضيّا وأنه اذا لم تحصل خلايا أخرى على ما تستحقّ من هواء وغذاء فتضمر وستحاول مدفوعة بحبّ البقاء الى التراكم حول الخلايا والأعضاء المتضخّمة بشكل سرطانيّ
هكذا أفهم مأساة الشمال الغربي والوسط والجنوب ومناطق أخرى
هكذا أفهم مسألة النزوح
ولو وفّرنا الهواء والغذاء أي الثقافة والتنمية للخلايا المحرومة والأعضاء الجائعة لعادت الى القيام بوظيفتها الأصليّة وفي نطاقها الأوّل
هذا يعني الهجرة المضادة
ولكن من الذي يوفّر ذلك ؟
اننا لا نتصوّر أن الخلايا والأعضاء المريضة سمنة يمكن بمحض ارادتها أن تتخلّى عن نهم تكديس الثروات
اننا نراها تجتهد في المزيد من تضييق الخناق على الخلايا والأعضاء التي تطالب بنصيبها المشروع في التهوية والتغذية مستعملة لذلك كلّ الوسائل بدءا بالشرطة ..وصولا الى أنماط من الأدباء
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو كيف نحدّد موقفنا من هؤلاء على أيّ أساس ؟
ان الأدباء والشعراء عندنا ينتمون في الغالب الى الخلايا والأعضاء الناقصة تهوية وتغذية ومع ذلك حاول أن تبحث في ما يكتبون عن فهم سليم للوضع  ولن تجد
البعض منهم لا يفترون من التأكيد على أنّ الأديب الحقّ هو ـ الخليّة الضّائعة ـ أي ـ الخليّة العائمة ـ جريا على قاعدة ـ أروح لمين ؟ ـ وـ مين عزّبك بتخلّصو منّي ـ ولكن بلغة يقولون عنها انّها ابداعيّة
استوردوا كلّ ألفاظ الجنون الغربيّة وكلّ ما وجد في القواميس عن الأسطورة والأساطير
تحوّل الجنون ـ  هبة ـ بغضّ النظرعمّا يقوله الطبّ في الموضوع
كادوا يعودون زمن حرب النجوم الى ـ لكلّ شاعر شيطانه ـ والى لغة الكهّان والسحرة القدامى
يحتجّون لافحام الخصوم بأنّ الغرب التكنولوجي لا تعدم فيه استفاقة الأسطورة
هكذا تتحقّق ـ انسانيّة ـ الأدب بعيدا عن قضايا الشمال/الجنوب وعن مشاكل صندوق النقد الدولي
أدب التجاوز يسمّون ذلك
الأدب يعلو ولا يعلى عليه
وهم يهدّدون الناس بموت ـ الفكرـ و ـ الاحساس ـ في غياب نمط الحرية الذي يطلبون
كأنه يوجد فكر صحيح ونافع يمكن أن تمتلكه الخلايا الاجتماعية ـ العائمة ـ
والبعض الآخر باسم الأصالة ما زال يكتب عن النوق والبعران
وعن النساء النوق
ولا ندري ، والله ، اذا كان يمكن لهذه الخلايا العائمة  تاريخيّا بل اللاتاريخيّة أساسا أن تقنع الناس بأن السباحة المضادة للتيار ليست في النهاية تعبيرا عن ترسّب فكر ماضويّ وعجز خلويّ عن مغالبة العصر
ولا يعدم المرء كذلك بعض الخلايا الشاعرة لا أدري بماذا ترفض كلّ ما سبق من ـ اتجاهات ـ  وتجاري مدرسة ـ ما أحلاها عيشة الفلاح ـ من دون أن تكون فلاحة ولا ملاكة
أكاد أقول اننا ازاء بالونات هوائية ملوّنة اذ الجوع من دون ثقافة سياسية أو الجوع مع ثقافة موظفة ـ كنتوليّا ـ يقود بسهولة الى كواليس ـ صناديق  التنمية الثقافيّة ـ
لكن ذلك لا يعني أننا نطلب من هذه الخلايا أن تصمّ آذاننا بالشعبويّة والنضالات الخطابية أو أن تغرقنا في عالم البؤس الحرمان والكبت بكلّ أنواعه ولكننا نطلب منها أن تكون مثقّفة قبل كلّ شيء بالمعنى الشامل للثقافة وأن تكتب بعد ذلك  ما تشاء ولن تجد من ينتقدها
لا تكفي معاجم العربية وحدها في هذا العصر لتكوين أديب
انني أعتقد أنه ما لم تحصل هذه الخلايا على ثقافة في الفلسفة والاقتصاد والسياسة الخ فلن نظفر بأدب يمكن أن يقنع الناس بجدواه
ذلك أنه لا خير يمكن أن يرجى من نتاج الكتاتيب الحديثة ولو تلففت بآخر النظريات الحديثة
ان كلّ بلد من بلدان العالم الثالث يملك حاليا علما وطنيّا ويملك بواخر واذاعات وحتى.. برلمانا .. ولكنه لا يتوفر على عقليّة عصريّة يمكن أن تجتثّ روح القرون الوسطى المتربّصة والتي لا تنتظر غير هزّة خفيفة لتظهر على السطح كاملة مكتملة
ان القضيّة قضيّة روح
والقضيّة قضيّة امتلاك مصفاة  حقيقيّة تبعدنا عن واقع أننا معدة  تلتهم كل شيء = الحار والحلو والمالح في نفس الآن
ومن دون هضم
وما لم يحصل ذلك فسنواصل الحديث عن كلّ المؤسّسات سواء أكانت سياسية أو أدبيّة وكأن وجودها أخطرمن عدم وجودها لأنها لا تعبّر عن الكامن بل تحرّف الوعي وبذلك تساهم ان عن وعي أو عن غير  وعي في التغطية على الأسباب الحقيقية التي تقف وراء خلل الجسد الاجتماعي.