الطريق الجديد ،13  ديسمبر 1986
 قراءات في سطور المدينة ، محمد الناصر النفزاوي

في مستقبل الرعاة والرعـــايا

لا أحد يجادل في أنّ البلاد العربيّة بتمامها وكمالها ممثّلة في السلطات السياسية خاصة تعيش أزمةكلّية ذابحة
واذا كانت هذه السلطات تبدو اليوم ممسكة بزمام المبادرة فذلك لا يعود الى كفاءة سياسيّة أو نظافة ـ روحيّة ـ وانما يعود الى ضعف طرف المعادلة الثاني وهو الرعيّة العربيةـ الاسلاميّة التي لا يصحّ أن نسمّيها ـ جماهير ـ أو ـ شعوبا ـ الا مزايدة خطابيّة اذ هي امتداد للسوقة والرعاع والعامة والسوداء والدهماء الى غير ذلك من التسميات التي تزخر بها كتب التراث العربي ـ الاسلامي
وزعاماتها  كذلك هي امتداد لسيّد القبيلة وللخليفة وللسلطان والملك والأمير بكلّ ما تحمل هذه الكلمات من دلالات الحسب والنسب والصفوة والنخبة زمن الاقطاع والعصر الزراعي
بهذا المنظار تصبح الحركات التحريريّة حركات صفوة لا تطمح الى تغييرالوضع الوطني أو القومي انطلاقا من نظرة جديدة جذرياّ سواء أكانت اشتراكيّة عقلانيّة لائكيّة أو كانت رأسماليّة وانما انطلاقا من محاولة تكيّف تلفيقيّ لا يلغي الأسس التي يقوم عليها نمط العلاقات الموروث عن الحضارة العربيّةـ الاسلاميّة
من هنا جاءت هذه الأنظمة ـ الاشتراكيّة ـ المعاديّة لاشتراكية الشرق والغرب
ومن هنا جاءت هذه ـ الأنظمة ـ الرأسمالية المعادية لتقاليد البورجوازيّة الغربيّة السياسية والفرديّة الخ ..

 

واسأل من شئت من ممثّلي هذه ـ المعدة ـ العربيةـ الاسلاميّة التي تخلط بين المتناقضات عن طرق الخلاص وسيجيبك ان كان ـ معتدلا ـ عن ظهر قلب ـ الأخذ بأسباب تقدّم الغرب مع الحفاظ على تقاليد الحضارة العربيّةـ الاسلاميّة نافيا بذلك كلّ جدليّة في الحياة وفي الثقافة

 

أودّ أن أقول ببساطة ان ما يسمّيه البعض بالنهضة العربية ليس أكثر من سوء فهم عند المثقّفين الذين فهموا أن كلّ ـ وصال ـ بين الغرب والعرب يمكن أن يتمخّض عن مولود ذكيّ وليس أكثر من سوء نيّة عند من كان من السياسيين على مستوى مقبول من الثقافة
والدليل على ذلك أنّ الفئة  الأولى لا يمكنها أن تبرّر كيف يمكن لنهضة عربية أن تبدأ منذ القرن الثامن عشر ـ قبل اليابان بنصف قرن ـ وأن لا تنتج نهاية  القرن العشرين أكثر من 70 في المئة من الأميين في العالم العربي
الدليل على ذلك كذلك أن الفئة الثانية لا تنفكّ عن الدعوة الى الأصالة هي بدورها ولكنها لا تغفل عن تأمين ما تهرّبه من أوصال الوطن في البنوك السويسريّة و الأمريكيّة مثبتة بذلك أن لا فرق بينها ونقابات الجريمة المافيوزية العالميّة
ما سبق أن ذكرنا بدأ يتّضح للعيان ويكشف  للرعايا عن الوجه الحقيقي للرعاة
لقد مات من مات من الحفاة العراة من أبناء ـ الشعب الكريم ـ ، المعذب والمكبّل ، واستغلّ الساسة الجميع شعراء ومتسكّعين
آمنت الرعية ب ـ قدوة الرعاة ـ
بل بدا للرعية زمن النشوة الوطنيّة القصوى أنّ مصالحها يمكن أن تتّفق والنزر القليل الذي تطلبه و بشروط : الهيمنة لي سيّدا وخليفة وسلطانا وأميرا مدى الحياة وعليك الطّاعة مقابل بعض العجين
ذاك هو أصل البيعة غير المعلن
ولقد وقع الاخلال بعدد من شروط العقد
فكان الرعاة يرفضون أن يعاد النظر جذريا في أسس العلاقات الاجتماعية :
يجب أن يبقى كلّ ـ سارح ـ تثقّف راعيا ويجب أن يبقى كل ـ سارح ـ جاهل رعيّة
وعندما نرى امتحان المثقّفين التقدّميين في هذا البلد العربي
عندما نقرأ عن ذبحهم في هذا البلد العربي الآخر
عندما نقرأ عن قريش بفروعها الراشديّة والأمويّة والعبّاسية  وهي تفرض تابعي تابعيها حتّى بعد موت وليّ نعمتها على الرّعايا الموالي والعبيد مشرقا ومغربا
عندما نقرأ عن البلاطات والجواري والحسابات السريّة في الخارج
عندما نرى ذبح الفلسطينيين والفلسطينيات   كالكلاب
لا يسعنا الا أن نبرّئ الاستعمار
لا يسعنا الا أن نقسم أن الطاعون بيننا
ان الجسد لا يموت الا اذا كان يحمل أسباب موته
ولقد كان الدور الاسرائيلي في الحياة العربيّة ، بغضّ النظر عن  المواقف الوطنيّة من القضيّة ، عامل كشف عن تهافت مفهوم النهضة العربيّة وعامل توعية لا مثيل له
وضّح للناس العاديين وهم البناء الذي كانوا ينشدون
كشف عورة حضارة موروثة كاملة
كشف عورة الرموز السياسية الورقيّة والعجينيّة
دفع ـ الأمّة ـ الى أن تنقد نفسها بنفسها
دفعها الى التساؤل:
ما قيمة أيّة ايديولوجيّة اذا لم يكن مدارها البغيّ والمزارع والفيلسوف ممتزجين مختلطين  مصيريّا ؟
نظمها كتلا هائلة ينخرها الاحباط والتساؤل :
أهو الشيطان الذي  لم نر في يوم من الأيام سبب ما نحن فيه ؟
أم هو نحن الذين ارتكبنا خطأ أننا لم نفضّل مفيوزو مقيّد الحكم على نبيّ مطلق اليدين ؟
وعندما تبدأ الكتل الكبيرة في التساؤل فلا يظنّن أحد أن حالة الاحباط ستدوم .