الطريق الجديد-1987
قراءات في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

آثـــــار تحــتــــرق  …

أودّ في قراءة هذا الأسبوع أن أتناول قضيّة خاصّة وهامّة في نظري هي قضيّة التوجيه الايديولوجي في الكتب المدرسيّة وخاصة منها الآثار المدرجة في حصص المطالعـــة في مختلف سنوات  التعليم الثانوي
انّ كلّ أثر أدبيّ يحمل رؤيــة ايديولوجيّة سواء أكانت هذه الرِؤية بيـــّنة أو كامنة
ولذلك لا يمكن أن نــؤاخذ كاتبا من الكتّاب على رؤيته للحياة وللأشياء
ولكنّ الأمر يتغيّر عندما يعمد المشرفون على التربية الى تخــيّر آثار معيّنة ذات رؤى معيّنة يدرجونها السنوات الطوال ضمن حصص المطالعة فتوجـــه ملايين التلاميذ وجهة منحـــازة الى هذا الحزب أو ذاك


ذلك أنّ القضيّة  تصبح قضيّة تسييس للتلاميذ وتوجيه منحاز لا تختلف في شيء عن قضيّة تسييس المعاهد وان كانت أشدّ خطرا اذ التأثير هنا مدسوس ضمن ـ آثار بريئة ـ وكثيرا ما لا يتفطّن لا الأساتذة ولا التلاميذ الى ذلك
فعلينا ، اذن ، أن نختار أحد أمرين
امّا تخيّر الآثارانطلاقا من تعدّد الرؤى وتضاربها والتوجّه بالتعليم نهجا ينمّي في التعليم القدرة على التعامل مع المتناقضات والوعي  بها ومن ثمّ تنمية الرّوح التأليفيّة
وامّا أن نكون صارمين  في تخيّرالآثارفلا نقحم ضمنها ما هو منحاز لهذا الحزب أو ذاك فنكون بذلك قد حيّدنا المدرسة حقيقة
انني سأكتفي هنا  ، لضيق المجال ، بايراد نموذج من ـ يوم من أيّام زمرا ـ لمحمد الصالح الجابري ـ مدرج بالسنة الرابعة ثانوي ـ يمكن أن يكون مثالا لعدد من الآثار الأخرى ـ المنبّت ـ لعبد المجيد عطيّة الخ..
وأنا اذ حاولت تجنّب ذكر الكثير من الأسماء فذلك تحاشيا للجدل واحتراما للمبدعين مهما كان موقفهم خاصّة منهم السيّد عبد المجيد عطيّة الذي لمسنا ونلمس تشبّثه بقيم تشرّف صاحبها فالغاية عند ذلك اصلاحيّة
جاء قي رواية الجابري:
ـ وعندما قوي حماس الناس واشتدّ ، رفع الشبّان رجلا كهلا على أكتافهم ، ووضعوه على الطاولة.. كانت له لحية قصيرة تشابه لحية ـ لينين ـ في نمطها وشكلها وصبغتها ، ورأس كالكرة ، وعينان ذكيّتان ، وصدر مرتفع ، متقدّم الى الأمام في حالة هجوم دائم وصاح في الناس وهم يرونه يفتح فمه : لا ..لا..لا..
فابتسم لهم وقرّب البوق من فمه أكثر ما يمكن ، ورجاهم أن يسكتوا أوّلا ، وليتركوه يقول ما سيقول لهم. وبعد أمد من الأخذ والرّد ورجاءاته المتلاحقة صمتوا وساد السكون فقال الكهل الملتحي : لن أقول لكم بأنني شيوعيّ ولن تسمعوها منّي . انّ تلك الحكاية التي من أجلها تفرّقنا واستطاعت الشركة أن تستغلّ تفرّقنا يمكن أن تذهب. لكن اصغوا الى كلمة واحدة أقولها لكم: لنتّحد يدا واحدة..وكلمة واحدة..وتناهى صوت من آخر الجموع يقاطع الخطيب : ـ يدان ..يدان..كشعار الاتحاد..يدان اثنتان أو لا نقبل.
وضحك الخطيب وهو يقول لمن قاطعه : ـ فلتكن يدين ، ياأخي.ولتكن أكثر من يدين حتّى نستطيع أن نضرب بحزم وقوّة.
واستطاع ذلك الرجل الملتحي أن يتمكّن في هذا الاجتماع من أذهان الناس ، بهدوئه ورصانته وسعة صدره ويكشف للجماهير أنّ الشركة هي التي أسّست الحزب الشيوعي الذي نراه بالبلدة اليوم يزاحمنا  اضراباتنا واجتماعاتنا ..الخ..الخ..ـ
)يوم من أيّام زمرا ، 1985 صص 167- 168)
هذه الرواية فازت بجائزة الدولة التشجيعيّة
ولا نظنّ أن ذلك كان لمستوى الصياغة فيها ولا لتميّزها اذ توجد آثار عديدة ذات مستوى راق حوكم أصحابها ومنعت لأنها تحمل رؤية مضادّة لرؤية الحزب الحاكم وتتّجه وجهة مغايرة في تقييم الحركة الوطنيّة ودور المنظّمة الشغيلة وعلاقات مختلف الأحزاب التونسية قبل 1956
ونحن لسنا ضدّ حريّة الفكر كما سبق أن قلنا فلكلّ واحد أن يقيّم هذا الحزب أو ذاك انطلاقا من اقتناعه ولكن الخطير هو أن أن تكتب آثار في ظلّ حزب حاكم فتكرّس رؤاه لغاية من الغايات وتنفرد دون غيرها بأهمّ فضاء فكريّ هو الفضاء التلمذي تصوغه كيفما تشاء