الطريق الجديد -  1987
قراءات في سطور المدينة ، محمد الناصر النفزاوي

في صحوة الصراع الصّادقي ـ الزيتوني

قطاع التعليم يتميّز ككلّ قطاع آخر بسمات أصليّة خاصّة منها أنّه ، مهما  كان مستوى العاملين فيه ، يضطلع أردنا ذلك أم أبينا ، بصياغة ذهنيات معيـّنة وبــثّ ايديولوجيا معيّنة
ولقد كان الوعي بهذا الدور من أسباب ما لحق تعليمنا من صياغات وتشكيلات عديدة ومتناقضة فلقد أرادته السلطة بادىء ذي بدء تعبيرا عن رؤية حضاريّة هي رؤية شقّ من الصادقيّين الدستوريين الذين تخرّجوا من الجامعات الفرنسيّة سواء أكانوا ذوي اختصاص قانونيّ أو مشهّدين في العربيّة أو الفلسفة عندما كان هؤلاء يملكون من التأثير ما يخوّل لهم تمرير رؤيتهم
ولكنّ الأمرتحوّل عندما ضعفوا الى صالح دعاة الرؤية  السلفيّة فبذلوا أقصى جهودهم لزرع منحاهم الفكري في التربة الغضّة التي يمثّلها تلاميذ الابتدائيّة والثانويّة

وأعتقد أنهم قطعوا شوطا كبيرا في تحقيق مبتغاهم
فلا يظنّن أحد عندئذ أنّ  ـ الصحوة السلفيّة ـ يمكن أن تختزل في  ردّ فعل عام على تردّي الأوضاع الاقتصاديّة الاجتماعيّة في البلاد
فهذه الأوضاع تسهّل البذر ولكنها لا تفسّر لوحدها كلّ شيء
ان قطاع التعليم لم يكن في رأيي غير المسرح الذي تجلّت فيه بعد عقدين من الاستقلال ارادة الثأر الكامنة عند الزيتونيين وأنصارهم وامتداداتهم السياسيّة المغلوبين على أمرهم.
انّها ثنائيّة الصراع السياسي القديم ـ الجديد بين أنصار القديم ـ المقدّس ـ ودعاة التجديد  في لونه الغربي البورجوازي
ويتساءل المرء:
أين كانت الأطراف الأخرى الممثّلة في اليسار بمعناه الواسع وحتّى الفضفاض ؟
ألم تفهم هذه الأطراف  أبعاد المسألة في الابـّان ؟
وماذا  قــدّمت لكسر هذه الثنائيّة التي لا يمكن أن تخرج بالصراع الى مرحلة التجاوز ؟
أسارع الى الاجابة فأقول :
لقد كانت هذه الأطراف ـ اليساريّة ـ حاضرة ولكنّها لم تفهم تماما البعد الثقافي لهذا الصراع فكان من نتائج ذلك أن اعتبرت الصراع ذا بعد سياسيّ فبقيت لمدّة طويلة مهمّشة من ناحية ومحلّ امتحان من ناحية ثانية
كان الحكم السائد منذ الاستقلال يسلخها حدّ العظم وكان رموز ـ الصحوة السلفيّة ـ ودعاتها من ـ المفكّرين الموضوعيين ـ يتوعّدونها بالجحيم الأرضي اذ الجميع يلتقون في الحقيقة كما التقوا في الماضي على أمر واحد هو ضرب ما يسمّى باليسار
ومن يتعمّق  هذه الأيّام خطاب البعض حتى من المستقلّين أو ـ التقدّميين ـ يحسّ بهذا العداء الكامن لليسار بمعناه الضيّق لا بمعناه الفضفاض الذي يشبه في فضفضته الرداء الواسع الذي يمكن أن يخبّىء الكثير من المفاجآت
من هذا المفهوم ان يجب أن نفهم أبعاد الصراع الذي أقحم فيه التعليم بمستوياته المختلفة وكذلك بقيّة المؤسّسات الأخرى ان أردنا التوسّع كالاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الكتّاب الخ..
وسوف أقتصر مع تنويع الأمثلة على شاهد واحد على ما أقول أقتطعه من كلام رجل سلفيّ يحترمه الجميع لأنّه لا يمثّل السلفيّة الرمليّة والرعويّة السوداء هو الفاضل بن عاشور:
ارتبط العنصر الشعبي ـ ...ـ ارتباطا محكما بالتوجيه الديني فسدّ بذلك الطريق على الدعوة الاشتراكيّة  والشيوعيّة التي كانت تتسرّب الى العمّال من باب الحركة النقابيّة ، ونفض جميع التونسيين أيديهم من الأمل في تلك المباديء الأجنبيّة وآمنوا بأن لا سبيل الى تدعيم كيانهم الاجتماعي الا بمنظمات مستمدّة  أصولها من روحهم القوميّة ومبادئها المليّة ، فتكوّنت الجامعة العامة للموظّفين التونسيين منفصلة عن جامعة الموظّفين التي كانت تجمع التونسيين وغيرهم على أصول اشتراكيّة مجافية لروح القوميّة ، وتكوّنت نقابات مستقلّة للعمّال التونسيين كان ابتداء ظهورها بصفاقس بزعامة فرحات حشّاد. وفي 20 يناير    1946انعقدت   بالخلدونيّة الجلسة التاريخيّة الجامعة التي التأمت فيها جامعة الموظّفين مع جامعة نقابات العمّال المستقلّة تحت اسم الاتحاد العام التونسي للشغل على قاعدة الرابطة القوميّة والأصول الاسلاميّة وأصبح الاتحاد ع.ت .ش  في روحه وتأسيسه ومبادئه العليا وأغلبيّة عناصر قيادته المركزيين والمحليين اسلاميّا بل زيتونيّا. ولمّا تمّ له النجاح بذلك والقضاء على الحركات النقابيّة المخالفة تكوّنت على مثاله جامعة النقابات الفلاحيّة ثّم اتحاد الصنّاع وصغار التجّار ، منتمين كذلك الى روح التوجيه الزيتوني
فاذا كان الاتحاد العام التونسي للشغل في رؤيتهم على النحو الذي أوردنا فما بالك بالتعليم وهو الميدان المؤهّل أكثر من غيره ببرامجه ومســّيريه لاحتضان الرؤى القديمة التي لا يعرف لها ماض محدّد ولا تخضع للمحاصرة بسهولة