الطريق الجديد - 14 نوفمبر 1987
قراءات في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

فــــي شرطـــي القول والعــــمل

لا قيمة لأيّ فكــــر اذا لم يتجسّد لحما ودما في واقع الحياة الاجتماعيّة ولا قيمة لأيّ عمل اذا لم يكن تجسيدا عصبيّا ودمويّا  لرؤية واضحة وخادمة لأكثر شرائح مجتمع من المجتمعات
فما الفكر غير عمل منتم
وما العمل الا فكر منجز
ما أقول عبّرت عنه الحكمة الانسانيّة منذ أقدم العصور
لم نأت بجديد في هذا المضمار
ويتساءل متسائل عن محلّ هذا الكلام في الظروف التي يعيشها البلد بعد الحدث  الخطير في حياة الشعب التونسي وهو الانقلاب


الأبيض الأخير الذي وصفه أحد المتعلّقين بالمصطلحات بأنّه حدث ـ ا بيستيمولوجي ـ  معتمدا  في ذلك على تعليق الاذاعة التونسيّة على كلمة الرئيس زين العابدين بن علي مفاده أنّ اللحظة الراهنة هي لحظة نقلة من عصر الخرافة الى عصر  الواقع.
أودّ كلّ شيء أن أبدي جملة من الخواطر حول المسألة:
لقد كنت راكبا قطار رادس ـ تونس عندما التقطت أذني همسا حول تغيير في الحكم
لم أصدّق في البداية ما سمعت فكلّ الناس تقريبا أصبحوا يربطون تغيير الحكم بالموت البيولوجي للرئيس ـ الكاريسماتي ـ ولا يتصوّرون أنه في امكان السلطة  في تونس أن تشّذ عن بقيّة البلدان العربيّة وبلدان العالم الثالث فتفرز من أحشائها من يكسر نسق التفتّت الداخلي والخارجي
ونحن لم  نكن كذلك فمجمل قراءاتنا في هذه الصفحة كانت تعبيرا جنائزيا ومتشائما عن حتميّة تغيير كهذا
عندما  وصلت الى العاصمة تأكّدت من الخبر وكان الناس على اختلاف  انتماءاتهم  بدء باللامسيّسين وصولا الى النقابيين والشيوعيين والديممقراطيين الاشتركيين والوحدويين الشعبيين  الخ يهنئون بعضهم البعض بل لنقل ان تهانيهم كانت تعبّر عن ثنائيّة التفاؤل ـ التساؤل
وموقف كلّ هؤلاء هو الموقف الصحيح
هو يعبّر من ناحية عن استجابة عميقة لما دعوا اليه منذ أمد طويل وتعرّضوا من أجله للضربة تلو الضربة ومن حقّهم  أن ينبسطوا وهم يسمعون من فم الرئيس الجديد كلمات ليست في النهاية غير كلمات معجمهم السياسي الذي طالما اجتهد الخطاب السياسي الرسمي في تجنّبه
وهو يعبّر من ناحية ثانية عن تساؤل لأنّهم يعرفون كما يعرف غيرهم أنّ ـ التركة ـ ثقيلة وأنّها أصبحت تتمثّل في تصوّر كامل للمجتمع وللحياة صاغ ملامح ملايين التونسيين فأصبح من العسير تغيير ذلك بعصا سحريّة
ذلك أنّ الخلل والتفتّت مسّا كلّ أجهزة الدولة وكلّ أنسجة المجتمع ولم  تسلم منه حتّى المؤسّسات التي كان من المفروض أن تكون أكثر حصانة كالتعليم والجامعة  الخ..
ذلك أنّ القيم الأصيلة أصبحت حلما يشار الى حامله باصبع الاتهام..
ذلك أنّ فلسفة ـ كن مع الواقف ـ أصبحت الفلسفة الوحيدة المعتمدة في البلاد
وخير دليل على ذلك ما رأيناه في الاذاعة والتلفزة من فضائح تمثّلت في انقلاب البعض في ساعات.
ولا أعتقد أنّ رئيس الدولة تنقصه المعرفة بهذا الجانب الخطير في حياة كثير ممّن هم الآن في السلطة
ومع ذلك فانّ أملي في خطاب الرئيس زين العابدين بن علي كبير ..
واحقاقا للحقّ أقول انني مضطرّ الى أن أتعلّق بهذا الأمل لأنه الوحيد الذي يسمح لرئة البلاد السليمة من القوى الحيّة بأن تتنفّس.
والمطلوب من الرئاسة الجديدة أن تجسّد ما أعلنت عنه من تجميع مكثّف لكلّ طاقات البلاد وتوظيفها التوظيف العقلاني السليم بدءا بأصغر الوظائف وصولا الى أثقلها مسؤوليّة.
وتلك مهمّة صعبة سيقاومها ، لا شكّ في ذلك ، كلّ الوصوليين والسماسرة في  السياسة  والثقافة ولكنّها ستجد ، ان خلصت النية،    
دعما من قوى المستقبل أي من الكتلة التاريخيّة الحاليّة مهما اعترضها من صعوبات  وستحلّ الرئيس محلا مرموقا في تاريخ البلد الحديث فتكرّس بحقّ  ما وصفت به هذه المرحلة  من أنها ـ  عصر جديد ـ.