الطريق الجديد، 29 نوفمبر1988
قراءات في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

فــــي المــــلائكـــة والشّيــــــاطـــــيـــن

لا يوجد ، في نظري ، قولة كانت وما زالت محلّ استشهاد " العدد "  مثل " خير الأمور أواسطها " .
عرفها اليونان مع أرسطو وعرفها المسلمون في الأحاديث وعرفتها شعوب أخرى وعبّرت عنها بلغات مختلفة .
وقد يكون سبب شيوع هذه القولة أنّها تقترب من الحكمة التي تصدر عن تجربة حياتيّة يشترك فيها جميع الناس ولكنّهم لا يستخلصون الا في نهاية الحياة وجوب الموازنة بين المدّ والجزر ، بين الافراط والتفريط أي أنّها تعبّر عمّا " يجب أن يكون " لا  عمّا  " هو كائن " حقيقة أي أنّها في النهاية قولة تعليميّة.
لذلك يستشهد بها المسرف الذي أشرف على الافلاس.
والمدمن الذي تحوّل جسده الى " قطع غيار " متآكلة لا يشدّها رابط متين.
يستشهد بها السياسيّ الحاكم الذي

ستفاق على ضياع ما يوفّره الحكم المطلق من هيبة ومال وتحقيقّ ذات .
تستشهد به القوّادة رجلا كانت أو امرأة قبل الموت بقليل عندما  يهزّها    المؤبّنون قبل الأوان طالبين أن تنطق بشهادة حلقيّة.

لا يعمل بها واحد  من كلّ هؤلاء عندما يكون " محقونا " بدم الشّباب ، فكرا وسياسة وحبّا وعربدة..
قد يقول قائل :
ـ لم أطال الرّجل في هذه " الشعوذة اللفظيّة " وما علاقة هذا " اللغو الخريفي " بالركن ؟
وأنا أسارع الى القول أنّ ما أوحى اليّ هذه الأفكاركتاب أحببته منذ زمان وعدت الى قراءته اليوم هو
" ابن أخ رامو" للكاتب ديدرو.
يطرح " البطل " في هذا الكتاب السؤال التالي :
" من تفضّل  من رجلين اثنين ؟ رجلا يكون  طيّبا ويتماثل ومتجره مثل " بريادسن " أو يتماثل وشجر المغث مثل " باربيي " يولّد زوجته كلّ سنة بانتظام ولدا شرعيّا ويكون رجلا صالحا وأبا مثاليّا وعمّا مثاليّا وجارا طيّب العشرة وتاجرا أمينا ولكنّه ليس  شيئا أكثر من ذلك أم رجلا يكون منافقا وخائنا وطموحا وحسودا وسيّئ الطبع ولكنّه كاتب " أندروماك " و " بريتانيكوس " و " ايفيجني " و " فادر" و " أتالي " ؟ ( يقصد راسين الشاعر المسرحي الكلاسيكي الفرنسي ).
لا تهمّنا اجابة حفيد " رامو " عن هذا السؤال فهي تبعد بنا عن الغرض ولكنّ ما  يهمّنا بالمقابل هو حقيقة أنّه لم يوجد من ضمن من طوّروا الانسانيّة عدد كبير يدخل ضمن النمط الأوّل وذلك بالرغم من أنّ هذا النمط الأوّل كان دوما المستفيد الانتهازيّ الكبير من مأساة النمط الثاني وسوء سمعته " الشعبيّة والعامّة " على الأقلّ مدّة حياته.
ولنراجع تاريخ رموز الانسانيّة في  الدين والعلم والأدب كيف امتحنوا في زمانهم ثمّ صاغ الناس فيما بعد من حياتهم أساطير ما أبعد أن تعبّرعن حقيقة حياتهم.
واذا كان هذا يصحّ على ما في الانسانيّة عامّة فانّه ما زال يصدق على الحاضر التونسي فكم من مثقّف قال لي انّني كرهت هذا الشاعر أو ذاك بعد أن رأيته مرّة سكرانا لا يفرّق ألفها من يائها وكم من مثقّف سمعته يبدّل موقف الاعجاب بهذا الكاتب أو ذاك بعد أن شهد طريقة لباسه أو حجم قامته وقد كان يتصوّره بشكل معاكس …
انّهم يطلبون معبّرين عن مآسيهم ولكنّهم يشترطون منهم أن يكونوا أسطوريين لا عاديين لباسا وجسدا  وعظما…
وهنا يتساءل المرء هل كانوا يسمحون بتدريس المعرّي والمتنبّي والتوحيدي في مدارسهم لو عايشوهم ؟
وقد تتعقّد المسألة لو طرحنا السؤال التالي :
ـ لم لم ترتبط أيّ نهضة في الفنون والآداب والعلوم بغير أمثال هؤلاء " الشواذّ " ولم لم نر الى اليوم (وفي كلّ البلدان )  رمزا أدبيّا أو فنّيا كبيرا من بين الرجال " الصّالحين " بالمعنى الشعبي للكلمة ؟ بل انّ هذه النّهضات لم تبدأ الا على أساس التمرّد على المفاهيم " الأخلاقيّة " المستمدّة لا من الواقع الحيّ والمتحرّك ولكن من النماذج الدينيّة والميتافيزيقيّة الكلّيّة .