الطريق الجديد، 24 جانفي 1989
قراءات في سطور المدينة، محمد الناصر النفزاوي

في الطّـــبقات الدغمائيّة

ظاهرة تراجع كثير من المثقّفين عن آرائهم التي كرّسوا الغرسها جزءا من حياتهم ظاهرة شائعة يمكن التمثيل لها في مختلف البلدان وخاصّة منها البلدان العربيّة.
ومن يراجع التاريخ المصري الحديث مثلا فسيلاحظ ذلك في الثلاثينات عندما تحوّل طه حسين والعقّاد وهيكل وتوفيق الحكيم الخ من ليبراليّة متأثّرة بالنموذج الثقافي العقلاني الغربي الى رؤية مشبعة حسّا دينيّا ومن ثمّ ظهر أدب كامل يمجّد الاسلام ورموزه.
واذا كان بعض النقّاد يرجعون ذلك الى مجرّد انتقال هؤلاء المثقّفين الى مكانة اجتماعيّة وسياسيّة جديدة دفعتهم الى الانخراط في الوضع السائد وما يوافقه من بناء ثقافيّ فانّني أميل الى اضافة عنصر آخر لتفسير هذا التحوّل يتمثّل في استفاقة الثقافة التقليديّة التي صبغت طفولتهم الأولى أي الطبقة النواة في أدمغتهم على اعتبار أنّ هذه الأدمغة مكوّنة في شكل طبقات متراكمة ومتجاورة لا يلغي أحدها الآخر.

هذا التراكم  يسبّبب مع تقدّم العمر تآكل الطبقة الثقافيّة العليا بتأثير تعرّضها الدّائم للصدام مع التأثيرات الخارجيّة المضادّة فينتج عن ذلك ما ذكرنا من هذا اللين اللاحق في المواقف وحتّى التحوّل من النقيض الى النقيض.
ولقد كان نجيب محفوظ أهمّ كاتب  نعرفه جسّد هذه الظاهرة في عدد من رواياته بل كان مساره الأدبيّ والحياتي مثالا واضحا على ما ذكرنا وهو ما دفع الكثيرين الى أن يقفوا منه موقفا متشدّدا في الفترة الأخيرة.
انّ هذه الظاهرة تشي بأمر آخر له أهمّية كبيرة ويمكن صياغته في السؤال التالي :
ـ أليست التحوّليّة transformismo  ممكنة كلّما وجد تباعد واع أو لا واع بين فكر الانسان واحساسه وفكر واحساس الناس عموما أي العدد أي بعبارة أخرى أنّه يستحيل تجنّب هذه الظاهرة بمجرّد نقدها ولكن تجاوزها يكون بتحوّل البناء الاجتماعي وثقافة المجتمع في اتجاه يضيّق من الشقّة الفاصلة بين وعي الفرد ـ ومصالحه ـ ووعي الناس ـ ومصالحهم ـ ؟