الطريق الجديد ،  10 جانفــي 1989
قراءات في سطور المدينة ، محمد الناصر النفزاوي

حـكــموا فـــنــقـــدنـا.. فـــلـيحـــكــم غيـــرهــم لــيـنـقـــدوه ..

كثرت هذه الأيّام علامات ضيق الحزب الدستوري الجديد بكلّ مظاهر النقد لسياسته وكأنّه أصبح يرى أنّ الفسحة الزمانيّة  بين نوفمبر 87  ونوفمبر 88 كانت جدّ كافية ليفرغ الناس ما في جعبتهم من تذمّر متعدّد الأسباب ولينطلقوا مجدّدا من " درجة الصفر في النقد " على  اعتبار أنّ ما تراكم منذ ثلاثين سنة قد مات واضمحلّ ولا مجال لمحاسبة السلطة الحاليّة ( وعمّ تحاسب هذه السلطة المنقذة التي ظهرت من العدم يوم 7  نوفمبر 87 ? ) الا ابتداء من تسلّم " الكريــة " قبل عام :

كذا تعلن السلطة عن تحمّل مسؤوليّة " تركة " جزئها " المغيّب حاليا ونسبيّا " أمام كلّ العالم وصناديقه الماليّة بدءا بالمعاهدات وصولا الى الديون.
وهكذا تعلن السلطة من ناحية ثانية عن عدم تحمّل مسؤوليّة فترة سابقة سيطر فيها  " الجنّ والعفاريت " وجاء رجال السلطة الحاليين تماما كما تجيء الملائكة والقوى الخيّرة لوضع حدّ لملكوت " العفاريت ".
فلا حقّ والحال هذه أن يقابل التونسيون خير السلطة وحبّها وحنانها و.. و.. ب" العقوق " و..التشكيك:

انّ السلطة تطلب ، ببساطة ، أن يمضي لها الناس ( بعد أن لدغوا أكثر من مرّة ! ) على صكّ أبيض اعتمادا على " حسن النيّة " و " الثقة " التي يجب أن تسود بين القمّة والقاعدة ، بين الرأس والأقدام بين السماء والأرض ، بين الله والعباد بين الحاكم والمحكوم أي هي تطلب ، صراحة ، العودة الى التقسيم القديم للعمل :
ـ لنا الحكم وعليكم العمل ، لنا التنظير ولكم التطبيق…
ومن يرفض هذه المعادلة (غير المتكافئة ) يقع تحت طائلة الاتهام ب" التشكيك "  والحال هي أنّ " التشكيك " وظيفة أساسيّة من وظائف أيّ معارضة شجاعة وغير انتهازيّة خاصة في بلدان العالم السابع حيث يجتهد كلّ عاهل في الاتصاف بالله فاذا هو عالم بمكنونات الناس سميع لها مجيب أي فوق الطبقات تماما كالله.
انها وظيفة شبيهة بوظيفة جمعيّة المستهلكين التي تمنع اليوم من تأشيرة العمل لأنّ رجال المال يخشونها أكثر ممّا يخشون كثيرا من الأحزاب السياسية في بلادنا اذ هي كفيلة ب" التشكيك " بجودة كثير من بضائعهم الفاحشة ثمنا المتهافتة جودة.

انّ المقارنة بين " جمعيّة المستهلكين " التي لم تمكّنها السلطة الى هذا اليوم من التأشيرة  و"جمعيّة  المشكّكين "  الذين كثرت تشكّيات السلطة منها  هذه الأيّام تسمح بفهم كثير من الأمور.
وهذه المقارنة وجيهة ، على الأقلّ في نظري ، لأنّ " الجمعيتين " تشتركان في الدفاع عن مصلحة المستهلك سواء أتعلّق الأمر بنوع الدجاج أو بنوع الخطب في السياسة والثقافة والأخلاق وفي ترشيده وتوجيهه الى أحسن الطرق في فهم نيات الباعة سواء أكانوا باعة دجاج أو باعة ايديولوجيات .